الرسائل (8): الغرق فى حكايات الناس

يوميات النشرة

يتناول هذا العدد تجربة علياء أبو شهبة، وهى صحفية مصرية زميلة، مع كتابها الأول “الوصم.. حكايات إنسانية لمتعايشين مع فيروس الإيدز”. أدون فى مقالته الرئيسية ملاحظاتى عن الكتاب، وجانب من “دردشتى” مع كاتبته حول بعض الأسئلة التى استوقفتنى.

عنبر قسم المناعة الخاصة في مستشفى حميات إمبابة – تصوير: علياء أبو شهبة

الغرق فى حكايات الناس

تركن سيارتها بعيدًا، وتمر على بوابة مستشفى حميات إمبابة لتقطع تذكرة دخول. بين البوابة والعنبر مشوار طويل تقطعه مشيًا وهى تفكر فيمن يضطرون إلى هذا المشوار الطويل سواء كانوا المتعايشين المنهكين أو ذويهم. 

من أجل تحقيق صحفى تطلب إعداده سنتين، تكرر علياء أبو شهبة زيارتها للمستشفى ثلاث مرات أسبوعيًا. قد تستغرق الزيارة الواحدة من ثلاث إلى أربع ساعات تتحدث فيها إلى العديد من المتعايشين مع فيروس الإيدز.

فى الأوقات التى لا تجد فيه من تحدثه تتجول بالمكان، تلتقط بحواسها صورة حية للعنابر عندما تكون فارغة، شكل بلاط الأرضيات، وملاءات الأسرة.

وعندما تعود إلى منزلها تفرغ التسجيلات الصوتية من هاتفها والصور من رأسها فى ملفات نصية؛ ستكون هذه مادة أرشيفية تعود إليها عندما تقرر تحويلها إلى كتاب.

فى إحدى هذه الزيارات، قررت أن تدخل المستشفى وكأنها متعايشة مع فيروس نقص المناعة البشرى وجاءت لصرف جرعة الدواء، لتختبر بنفسها تجربة لطالما سمعت عنها.. إذ عرفت فى هذه الزيارة مذاق “الوصم”.

العدد الكافى

قبل عدة سنوات من لقائى، بها انخرطت الصحفية المصرية فى إجراء تحقيق بعنوان “الترياق القاتل..متعايشو ‘الإيدز’ يواجهون انهيار المناعة والوفاة” ترصد فيه خللًا أصاب منظومة صرف الدواء للمتعايشين بعد سنة 2011 بما يهدد مناعتهم وقد يسبب الوفاة.

يقدر برنامج الأمم المتحدة لمكافحة الإيدز فى مصر عدد المتعايشين مع الفيروس بنحو 30 ألفًا عام 2021، وهو رقم لا يمكن ذكر نسبته إلى مجموع سكان البلاد المُقدر بـ 112.7 مليون نسمة الذى كان يعانى فيه 7% من المصريين من فيروس التهاب الكبد الوبائى فى الوقت الذى كانت تعد فيه علياء تحقيقها؛ وبالتالى فإن قبول نشر تحقيق عن فئة صغيرة جدًا، هى على الأغلب موصومة اجتماعيًا أيضًا، كان تحديًا إضافيًا، فما هو الرقم الذى يستحق أن تُروى معه قصص الناس؟

تحكى علياء أن محررًا قال لها إنها لو كتبت تحقيقًا عن فيروس التهاب الكبد الوبائى لقرأه تسعة أو ربما عشرة ملايين، إنما من سيقرأ تحقيقًا عن المتعايشين مع فيروس الإيدز؟ أما هى فتقر بأن المواقع الصحفية من حقها البحث عن عدد القراءات والأرباح، لكن بالنسبة لها هناك دور للصحافة يجب ألا تتخلى عنه، وفى النهاية لكل شخص قصة تستحق أن تُروى، حتى لو كان شخصًا واحدًا، المهم المعالجة والتناول.

مستشفى حميات العباسية – تصوير: علياء أبو شهبة

كتاب عن قصص مُستبعدة

قُوبل التحقيق باحتفاء مهنى كبير بعد نشره، لكن علياء نفسها لم تشعر أن عملها اكتمل بعد.

تقول علياء إنها شعرت بأن المادة التى جمعتها خلال الإعداد لتحقيق ، كانت أكبر مما يحتمله عملها الصحفى.

فرض التحقيق شروطًا محكمة على اختيار قصص المتعايشين التى ستنسج منها موضوعها الصحفى، فأولًا يجب أن يكون المتعايش منتظمًا على تناول الدواء منذ ثلاث سنوات على الأقل، وأن يكون قد اختبر فترة الخلل الذى أصاب منظومة صرف الدواء فى السنوات بين 2011 و 2013. وبالتالى اضطرت صاحبة التحقيق إلى استبعاد الكثير من القصص التى تستحق أن تُروى.

بعد كفاح طويل، نجحت علياء فى إصدار كتابها الأول، بعنوان “الوصم.. حكايات إنسانية عن متعايشين مع فيروس الإيدز”. نسجت الصحفية المصرية كتابها من خيوط تجربتها الطويلة مع عملها الصحفى في هذا الملف.

فى الكتاب الذى تتنوع فصوله بين قصص المتعايشين، وفصول معلوماتية عن المرض وطرق العدوى والخرافات التى شاعت عنه وأدت إلى حصار المتعايشين بحالة الوصم المجتمعى، تمنح علياء من تحدثوا إليها صوتًا يحكى عن معاناتهم مع الوصم، لا المرض فحسب.

أم وائل

أم وائل هى من ضمن صاحبات القصص الواردة بالكتاب، تصطحب وائل ابنها المصاب بتأخر عقلى وهو أيضًا متعايش مع فيروس الإيدز إلى مستشفى الحميات. اضطرتها الحاجة إلى العمل لمساعدة زوجها الذى يعمل كعامل نظافة في فترتين صباحية ومسائية لسد حاجة الأسرة، ولم يستطع أيًا منهما مجالسة هذا الابن الذى صار يغيب عن المنزل لساعات وأيام دون أن يعلم أحد عما أصابه أثناء فترات الغياب. يرجح أحد الأطباء أن وائلًا قد تعرض لاعتداء أو اعتداءات جنسية أدت إلى إصابته بالمرض.

تزداد قسوة هذه القصة عندما تحكى أم وائل أن جارة لها تتبعتها حتى المستشفى لتعرف ما أصاب ابنها، وهددت بفضحها فى الحى ليعرف الجميع، بمن فيهم خطيب ابنتها، بأن ابنها مصاب بالإيدز.

دون نظام الأرشفة الذى اتبعته علياء من أجل تسجيل مشاهداتها اليومية، لم تكن لتستطيع استدعاء هذه القصة وغيرها من القصص لترد فى كتابها، فلم تكن أيًا منها مناسبة للنشر ضمن تحقيقها الصحفى.

كيف نحاور الألم

تقدم بعض المؤسسات الإعلامية إرشادات مهنية للصحفيين فى التعامل مع أصحاب التجارب المؤلمة مثل المتعايشين مع فيروس الإيدز، فينبغى ألا تتعلق الأسئلة بما يمس سبب إصابته بالفيروس أو حياته الشخصية أو ما استحضار ما يؤلمه.

يتعارض هذا مع الكثير من الممارسات الصحفية التى يلجأ إليها البعض فى التعامل مع المسئولين الرسميين أو أية مصادر أخرى للمعلومات، فقد يضغط أو يحاصر الصحفى مصدره بالأسئلة للوصول إلى الحقيقة أو المعلومة إن لزم الأمر.

لم تتوقع علياء أن يرغب المتعايشين فى التحدث إلى الصحافة، لكنها فوجئت بأن لديهم طاقة حكى نابعة من شعورهم بألا هناك من يسمعهم أو يهتم بأمرهم.

اتبعت علياء استراتيجية بسيطة مفادها أن تشعر من يتكلم معها بالراحة النفسية، وألا تسأله أو تشجعه على الكلام بشكل مباشر عندما يتعلق الحديث بذكريات مؤلمة، فما فائدة الحصول على حوار “محصلش” وترك هذا الشخص موجوعًا أو متضررًا على حد تعبيرها.

تكتفى بأن تعيد صاحب القصة إلى الموضوع بشكل لطيف إن استطرد فى موضوعات فرعية، أو تشجعه على إعادة سرد بعض مما حكاه بأسئلة مختلفة أو فى مناسبات أخرى لتتحقق من صدق قصته.

قطة تنام على سرير خالي في مستشفى حميات العباسية – تصوير: علياء أبو شهبة

قرارات تحريرية

تورطت الكاتبة عاطفيًا على نحو ما مع هذه القصص ومع أصحابها، وربما أثر هذا على قرارتها التحريرية، فلم تُنكر عندما أخبرتها بأن كتابها يحتوى على قصص مكررة. طلب منها بعض الناشرين الذين أبدو استعدادهم لنشر الكتاب حذف قصص طالما أن هناك قصص أخرى تحكى ظروفًا مشابهة وتؤدى نفس الغرض.

ربما كانت لتحذف تلك القصص المكررة لو كانتمحررة للكتاب، لكنها ككاتبة لا تستطيع فعل هذا. تشعر بأنها مستأمنة على نقل رسالة أصحاب هذه القصص، خاصة من رحل منهم عن عالمنا، وأن هذه الأمانة شجعتها على مواصلة عملها حتى فى أعتى اللحظات إظلامًا.

من اللافت أيضًا أن الكتاب يكرر فى أكثر من موضع إنه ليس من حق الناس إطلاق الأحكام على المتعايش مع فيروس الإيدز، وليس لأى منهم الحق فى معرفة سبب إصابة المتعايش بالفيروس، ومع ذلك يرد فى كل قصة كيف أصيب المتعايش صاحب القصة بالفيروس؛ والغريب أنه لم يكن فى أى من هذه القصص من أصيب الفيروس عن طريق سبب يدينه المجتمع مثل الإدمان والعلاقات خارج إطار الزواج وغيرها، فيما قد يبدو تناقضًا بين المبدأ والتطبيق فى هذا الكتاب.

بحسب علياء أصر الكثير من المتعايشيين على أن تكتب سبب إصابتهم بالمرض، لأنهم يريدون تبرئة أنفسهم أمام المحيطين بهم فى حياتهم الاجتماعية مثل الزوج أو الأخ، وأمام المحيطين بهم فى المستشفى مثل الممرضات أو موظفى الأمن.

تكلفة نفسية

تزامن عمل علياء على كتابها مع ذروة انتشار وباء كورونا، وكان لديها ما يكفى من الضغط العصبى والقلق على صحة والديها المسنين فى هذا الوقت، وأضافت عمليات تفريغ التسجيلات والرجوع إلى ملفات الشخصيات والاطلاع على الصور التى التقطتها أثناء إعداد التحقيق ثقلًا نفسيًا جديدًا.

وبدا لى من قراءة الكتاب ومن دردشتى معها أن علياء قد تورطت فىهذا العالم، وأبقت نفسها على اتصال بأبطاله بعد التحقيق الصحفى، وتعاملت بتضامن نفسى وحساسية شديدة ساهمت فى حالة أسمتها علياء بالغرق. كانت تغرق فى مشاعر ثقيلة دون أن تعلم إلى أن نبهتها بعض الأحداث الشخصية أنها قد تحتاج إلى مساعدة.

فى ختام الكتاب فصل يركز على الصحة النفسية للصحفيين الذين يتعاملون مع مثل هذه الموضوعات والملفات ذات الثقل النفسى. تقول علياء إن الاهتمام بالجانب النفسى للصحفى فى بلادنا معدوم، رغم أن هناك الكثيرون ممن غطوا الثورة المصرية وتوقفوا عن ممارسة المهنة، ولم يعودوا قادرين على الكتابة أو التقاط الصور، بعضهم انعزل عن الناس أيضًا. هى نفسها قد مُحيت من ذاكرتها أحداث عنف شهدتها بنفسها فى الفترة ما بين 2011 وحتى 2014.

أما عن تكلفة الحساسية الزائدة فتقول إن بدونها لم يكن ممكنًا كتابة قصص مهمة، ونقل تجارب مهمة لم تختبرها بنفسها مثل الختان والزواج المبكر، وليست معرضة لأنها ليست جزء من هذه المجتمعات. وقد علمتها هذه الحساسية وتجارب الكتابة أن تسمع وتتعاطف وتضع نفسها مكان من يحدثها، وأن تتعلم إلغاء إصدار الأحكام على الناس.


اقتباس

من كتاب لماذا أكتب

جورج أورويل – ترجمة على مدن

المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2013


ترشيحات

  • علياء أبو شهبة – موقع مصراوى – بدعم من (أريج) – أغسطس 2014

  • هانى المصطفى – المنصة، يناير 2025

  • أحمد رشاد – كتب مملة، فبراير 2025


كتاب العدد

صلاة تشرنوبل 

سفيتلانا أليكسييفيتش، ترجمة: أحمد صلاح الدين

دار مصر العربية للنشر والتوزيع، 2016

الوصم: حكايات إنسانية لمعاناة متعايشين مع فيروس الإيدز

علياء أبو شهبة

دار المصرى للطباعة والنشر، 2021

هل وصلتك النشرة عبر صديق؟ يمكنك التسجيل لتصلك فور صدورها عبر هذا الرابط

عن مصطفى علي أبو مسلم

مصطفى علي أبو مسلم
صحفي ومدير إحصاءات واستراتيجيات الجمهور بمجموعة سبرنجر نيتشر