الحلقة الأولى في سلسلة مقاومة النسيان
ربما لستُ مستعدًا للبوح بعد، أخشى فتح باب يستحيل غلقه، ولهذا أدور في دوامات الحاضر، أتقلب من النوم إلى العمل، ومن العمل إلى النوم، وأختصر ما بينهما، صرت لا أسير إلى موقف السيدة عائشة لأركب ميكروباص أول عباس أول مكرم، وأتجنب الخروج مع أي شخص سيتركني بنهاية الليلة في طريق سيتعين عليّ مشيه وحدي، وانتقلت من استقلال سيارات الأجرة إلى خدمات أوبر وكريم بما يستقطعانه من ميزانية غير هينة من راتبي الذي ما أن أرتفع أسقطه سعر الصرف أرضًا. كل هذا لكي أتجنب الانفراد بنفسي التي تستمرئ اجترار الذكريات.
لعل أبرز ما تعلمته السنوات القليلة الماضية هو أن أبقى ابن اليوم، الأمس كان يقتلني ببطئه وظلمه، ويصورني على نحو بغيض. أفادني هذا كثيرًا عمليًا، غير أني صرت بلا روح أو وعي حقيقي. فاجئتني إحدى العائدات من الماضي بصورة قد نسيتها عن نفسي. إذ عندما ظهرت دعاء – وهذا ليس اسمها الحقيقي – برسالة عبر فيسبوك كتبت ما لا يقل عن أربعة فقرات طويلة عما كنت أبثه من أمل في الجميع عبر حساب فيسبوك القديم والذي مسحته بنهاية 2013 أو بداية 2014، مستفهمة إذا ما كنت تعرضت لشيئًا استثنائي هزني وغيرني، لوهلة شعرت أنها تعرف ذلك الحدث الكبير الذي جرى لي في أبريل 2016 ولا يعرفه سوى القليل من الأصدقاء، لكن بعد محادثة قصيرة راح شكي هذا.
كنت، عندما راسلتني دعاء، غير مستعدًا لممارسة دوري القديم، وكانت تطلب دعمًا نفسيًا تعودت أن أقدمه مجانًا، وأقصد المجانية النفسية إذ لم أتلق دعمًا مماثلًا من ذات الأشخاص الذي دعمتهم فيما مضى، لهذا لم نعاود التحدث إلى بعضنا البعض بعد هذه المرة، وشعرت بأني صرت إنسانًا منفصلًا عن الذي كنته منذ 5 سنوات، وإذا ما كنا نقطتين لا يمكن أن يمر بنا خطٌ مستقيم دون أن يكسره انحراف حاد.
هناك أشياء كثيرة لم تتغير، منزلي، سريري، والشوارع التي أمشيها في العطلات أقضي فيها حاجات لأسرتي، لكنها لم تعد تعني نفس الأشياء لي، حتى أحلامي، التي يحكيها آخرون من عمر مررت بها، لم تعد تخاطب في ذلك الحنين إلى هذا العمر الذي مضى.
كيف حدث هذا وأنا كنت أتغذى بالكامل منذ بضع سنين على الحنين؟ كيف حدث هذا الانهيار الكامل لإنسان أساسه الإيمان -ليس بالمعنى الديني فحسب- بُني على أطلاله إنسان لم يعد يكترث لشيء؟
لعل ما أيقظني من غفوة الحاضرة هو ترددي على متحفي الفن الإسلامي والقبطي مع أجانب، إذ لطالما كانا وجهتي المفضلتين عند اصطحاب أصدقاء من دول أخرى، إذ يحكيان التاريخين في مراحل مختلفة، تبدو لنا دائمًا منفصلة عن بعضها البعض، ويكسران غرور الإنسان المعاصر بأن ما نشهده من تطور وفن هو وليد من تكنولوجيا الحاضر المتقدم، ويكسران على النحو ذاته ذلك الترسيخ المقيت بأننا انحللنا في ذلك العهد القريب، بعد ألف سنة أو يزيد من الرشادة الأخلاقية، وقوامها الدين، وهذه الرشادة بمفهوم البعض أننا كنا بعيدين كل البعد عن الفن والعلوم التطبيقية، وقريبين كل القرب من علوم الدين فحسب.
هذا، وأشياء أخرى، تجعلني أقول أن ما أعيشه اليوم مهما بدا بعيدًا ومنفصلًا عما عشته الأمس، ليس نبتًا شيطانيًا وأن هناك جذورًا لكل شيء كانت مخفية، أو صرت أغفلها عمدًا لكي لا تنكأ جروح خيبات الأمل، أو تحملني من ألتزامات عاهدتني عليها طفلًا ولا طاقة -نفسية- لي لتحملها.
وعبر هذه البوابة، التي لا أعرف على التحديد إلى ما ستقودني، سأحاول اكتشاف هذا الأمر بالتواصل مع ماضي، قد لا يكون مثيرًا كسرد قصصي، لكنه يعني الكثير لليوم قبل الأمس.