يُحتجز علي في دور بدأه كلعبة ومراوغة من أجل الوصول إلى جسد سارة رفيقته، ويصيبه الضيق عندما اهتز بفقد مركزه، ومعه ما امتلكه منذ لحظة ميلاده بداهة من حرية وسلطة على حركته وجسده.
حدث هذا منذ أن أُغلق عليهما باب غرفتها، متجاوزًا بواب العمارة (حارس العقار)، والأسرة التي يبدو أنها محافظة على نحو ما فتقيد حركة أبنتها، وحينها بدأت في تعريفه على قواعد عالمها بالتجربة، فلا أحد يطرق من والديها الباب قبل دخوله، فيما يرهفان السمع لما يحدث بالداخل.
ارتباك “صاحبتي”
وسيعلق مرات، في زيه الأنثوي، في الغرفة المغلقة، بالباب غير المحكم، وبالآذان المرهفة، والخوف المقترن بحماسة الحميمية، وفي الحمام حيث الأب رابضًا خارجه، وفي المصعد الأقرب إلى الإظلام الكامل.
لعبت كوثر يونس مؤلفة ومخرجة فيلم “صاحبتي” لعبة الكراسي الموسيقية، حيث أجلست علي، الشاب الوسيم مكتمل الذكورة، مجلس رفيقته لليلة واحدة، وواجهته في لعبة من مستويات متعددة، تمامًا كمستويات الألعاب الإلكترونية، بتحديات تختبر قوة تحمل هذه الذكورة لما تعيشه الفتاة في ساعات معدودة، تبدأ بانعدام الخصوصية، وتنتهي بفقدان السيطرة على مجريات الأمور في العلاقة، فيتكوم بعد ساعات من الرعب من انكشاف أمره، مستسلمًا للدور الذي فرض عليه، ومديرًا ظهره لما سعي للحصول عليه بدخول هذه اللعبة التي “أهانته”.
بالكاميرا، تتبعت كوثر يونس خطوات علي إلى غرفة سارة حيث تخرجُ وتُدخل المشاهد مرات عدة وعلي مركزًا في كل المشاهد يختبر مساحيق التجميل. يواجه انعكاس صورته في المرآة، يدور حول نفسه كحيوان ضاري في الأسر، وفي الحمام -حيث يرفض أن ترافقه سارة- ينزع عنه صورته المُربكة تحت تدفق المياه من الصنبور.
هل هناك حياة أخرى بعد البواب؟
تتجاوز كوثر يونس خريجة المعهد العالي للسينما بالقاهرة، عتبة وكليشيه بواب العمارة، الذي لجأ له مئات المبدعين والمدونين على مدار العقود الماضية، خصوصًا بعد انفتاح طاقة مشاركة التجارب والأفكار المشتركة على منصات التواصل الاجتماعية، حيث يقف بواب العمارة، في كثير من الأعمال الفنية، حارسًا وسلطة حكم وتحديًا ودخيلًا عند الحديث عن العلاقات والأدوار الاجتماعية والحريات.
تُلخص وتُبسط شخصية بواب العمارة موقف المجتمع وسلطته تجاه العديد من القضايا والأفكار، مما يجعله أحيانًا شخصية “سريعة التحضير” أو “مُعدة سلفًا” قد تعتمد، شأنها شأن الكثير من الشخصيات الأخرى، كمعلم القهوة في الحارة الشعبية، على أعمال فنية وأدبية أقدم، وتفقد أصالتها بالتدريج كلما زاد هذا الاعتماد أو الاقتباس.
بتجاوز هذه السلطة استطاعت كوثر يونس أن تختبر مياه جديدة، أن تخرج بفرضيتها “ماذا يحدث لو”، من منطقة مريحة حيث نقد الأدوار من الخارج، في حدود السخط والشكوى من الحصار والمنع، إلى ماذا لو تجاوزنا الحارس، لكننا بقينا محتجزين خلف أبوابه، ألا يدفعنا هذا إلى الالتفات والمسألة.
أسرى رقابة الماضي
تخرج سندس شبايك مخرجة فيلم “She Said No وهي في برلين” ببطلتها سارة من المجتمع كله، تنقلها إلى بلد مختلف تمامًا حيث تستطيع أن تمارس “الرفض”، رفض إطار الزواج – ولو مؤقتًا – رفض الاحتفاظ بالحمل، التعليقات حول اختياراتها ومظهرها من قبل شريكها في العلاقة، لكنها مع ذلك تبقى أسيرة لأشباح تجاربها السابقة – التي ربما تكون قد اصطحبتها معها في حقيبة سفرها – مستنفرة كل دفاعاتها أمام طارق الذي تخوض معه علاقة متوترة.
خارج الصورة التي تعكس توتر وضيق سارة، يتحدث طارق عن ترتيبات السفر إلى مصر حيث سيتزوجان، ترفض سارة الخطة التي دبرها طرف واحد، وتتحدث عن آلامها وقلقها ومايختلج قلبها، ولا يدخل طارق الكادر حتى تخرج سارة منه ليشكو مما تشكو هي ذاتها منه، إذ يضيق بإجرائها عملية إجهاض الجنين دون مناقشته.
يعكس الحوار السريع تاريخ طويل من التشاحن والاتهامات المتبادلة، والكادر الضيق الذي يرسم وحدة طرفي العلاقة وعزلتهما داخل جدران عالية بنوها من آلامهما، تحرص سارة على استخدام كل مساحة اكتسبتها، ويضيق طارق من تحميله عبء تجاربها السابقة.
هنا، يغيب المجتمع وحارسه (البواب) من الصورة ومن الحكايات في الحوار ومن الأحداث عمومًا، لكنه ظل جزءًا مؤلمًا من تكوين أبطال فيلم شبايك، وطرفًا أصيلًا، يمارس دوره في الخفاء، في الصراع.
تكشف سندس شبايك التي بدأت رحلة الإخراج من أكثر من عقد ونصف بعروض حكي كانت – ولعلها لازالت – جريئة تتناول قضايا اجتماعية بعنوان “بصي”، انعكاس الضغوط المتعلقة بالأدوار الاجتماعية على الذكور أيضًا فهي ترسم رفيقًا لسارة لا يخلو من عيوب وتراكمات، فهو يغير على البطلة، ويتخذ قرارات – شأنه شأنها – بالنيابة عن الطرف الآخر، لكنه يرزح تحت ضغط شديد من تحفز وتأهب لا يبدو أنه يهدأ من شريكته تجاه أي تعليق منه على تصرفاتها أو مظهرها، فيختار -كما يشير الحوار- الكتمان والانسحاب. .يجسد محمد الحديدي ببراعة شديدة الغضب المكتوم الناتج عن هذا الضغط بالصوت المهزوز والأنفاس المتلاحقة.