تلقى الحاج عبد الله سيف الكثير من النصائح ليتراجع عن توسيع نشاطه، حتى أن بعض العمال في مصنع الملابس الصغير الذي كان يملكه في حارة اليهود وجدوا في شراءه لمكن جديد ومقر جديد قد كلفاه مئات الالاف من الجنيهات حتى الآن مغامرة.
ليس وضع البلد المضطرب سياسيا ومن ثم وضع الاقتصاد هو السبب الوحيد في توجيه مثل هذه التحذيرات، لكن ما يهدد نشاط الحاج عبد الله حقا هو قلة اليد العاملة المدربة.
بين المكن الذي تعلوه الاتربه يقف الحاج عبد الله مشككا في قدرته على جذب يد عاملة مدربة وملتزمة “المصنع محتاج على أقل تقدير 50 عامل، لو جمعت 20 منهم بس هادور المصنع”
لكن ما الذي يجعل الحصول على يد عاملة مدربة في بلد يعاني 13.6% من سكانه من البطالة أغلبهم من الشباب بحسب تقديرات حكومية صعب؟ إذ لا تعتبر حالة سيف فريدة من نوعها.
يقول خالد عبده عضو اتحاد الصناعات ورئيس غرفة الطباعة والتغليف “من 5 سنوات أعلنا عن آلاف الوظائف، أغلبها في قطاع الملابس، 6 شهور تدريب ب 600 جنيه، وبعدها يتعين المتدرب، عارف اتقدم كام واحد؟ 700”
يشير اصحاب مصانع وورش، من ضمنهم خالد عبده وعبد الله سيف، باصابع الاتهام إلى الميكروباص والتوكوك وسائر المهن التي جذبت قطاع لا بأس به من الشباب لسهولتها وارتفاع دخلها نسبيا مقارنة بالمهن والحرف.
في المقابل لا تبدو أن مثل هذه الإعلانات موجهة لقطاع اليد العاملة المدربة والمنخرطة في الورش الصغيرة، كما لا تبدو المصانع بالنسبة لهم المكان المثالي للعمل ذو العائد المجزي، يقول أحمد عثمان – مكنجي احذية – إن عمله بأحدى ورش الدرب الاحمر يوفر له يومية تكافئ انتاجيته، إذ يتعامل بالقطعة لا بأجر ثابت كما في المصانع.
وفي ظل مثل هذه الأزمة لطالما تصاعدت اصوات رجال الاعمال لفتح الباب لجلب اليد العاملة من الخارج، تحديدا من دول كالهند وبنجلاديش، خلال السنوات الاخيرة، قبل أن تخفت تلك الاصوات قليلا بعد الثورة التي خلفت عدم استقرار سياسي واقتصادي.
غير أن لهذا التراجع اسباب اخرى يوضحها محمد المرشدي رئيس غرفة الصناعات النسجية إذ يرى أن اليد العاملة الآسيوية، برغم انتاجيتها والتزامها، ليست الحل في بلد كمصر يعتبرها العامل الآسيوية ترانزيت لدول خليجية توفر له اجرا أعلى مقارنة بدخله في مصر، وبالتالي تشكل اليد العاملة الآسيوية عبئا ماديا على صاحب العمل الذي يتكفل بجلبها وايواءها وتشغيلها في حال عدم استمرارها.
ويضيف المرشدي أن اليد العاملة المدربة بالفعل “متسكنة” ومستقرة في أعمالها، وبالتالي فإن الأزمة في اليد العاملة غير المدربة التي تدخل سوق العمل ويلزمها تحويل نشاط من تخصصها سواء كان مهني أو أكاديمي، وهي عملية تستغرق شهور لا يمكن أن يحصل فيها المتدرب على أجر كامل لعمل لا يقوم به كاملا وبالتالي تصبح المهن الصناعية والحرف غير جاذبية للجيل الجديد.
وفي نظر خالد عبده أن عملية تأهيل اليد العاملة هو دور قطاع التعليم الفني بوزارة التربية والتعليم، وقد فشل فيه، لأن مخرجاته فاشلة على مدار عقود ماضية، ولا تتماشى مع واقع الصناعة وسوق العمل.
وينتظر عبده تحويل هذا القطاع إلى وزارة مستقلة، لكنه يرى أن هذا التحول لن يؤتي ثماره إن استمرت نفس سياسات التعليم في ذلك القطاع.
ويقول أصحاب مهن وحرف أن سبب أزمة قلة اليد العاملة يتجاوز سياسات التعليم الفني، إلى السياسات الاقتصادية للدولة.
يقول الأسطى مصطفى، صاحب ورشة للخراطة بالسيدة زينب، أنه لم يعد هناك قطع غيار مصرية للآلات والمعدات التي يعمل بها، تحولت كثير من الشركات التي كانت تصنعها إلى تجار يجلبونها من الصين، وتحولت الورش التي كان يعمل بها في أرض يعقوب منذ 50 سنة إلى محلات تبيع الأدوات المنزلية، يضيف صائحا “مبقاش فيه صناعة عشان يبقى فيه عمال، البلد اتحولت كلها للتجارة”.
على بعد عدة أمتار من أرض يعقوب الذي تحول إلى أمتداد تجاري لمحلات شارع عبد العزيز، يجلس الأسطى جبريل في أحدى ثلاثة ورش لخراطة المواتير هي الوحيدة التي تبقت من الشارع ذو النشاط الحرفي القديم.
يدير جبريل احدى هذه الورش لصالح صاحب الورش الثلاث، في الداخل 8 عمال لا تقل أعمارهم على الأغلب عن الخمسين، يقول جبريل إنه لا يوجد “صبيان” بالورشة، إذ من المعتاد يساعد كل “أسطى” صبيين على الأقل، ويعزو جبريل هذه الحالة كالعادة إلى عزوف الشباب الصغير عن تعلم الصنعة، لكنه يضيف أن اصحاب الورش لم يعودوا يتحملون يومية إضافية لصبيان أو اسطوات.
يرسم جبيرل باصبعه على احدى الماكينات دائرة افتراضية شارحا وجهة نظره: في البداية هناك مصانع مصرية تصنع قطع الغيار، ثم تأتي منتجات صينية ارخص في مقابل المنتج المصري الأعلى تكلفة ومن ثم ذات سعر أعلى، في ظل هذه المنافسة غير المتكافئة تغلق المصانع المصرية، ولا تتوافر قطع الغيار، يصبح نشاط الورش وهو الإصلاح اعتمادا على توافر قطع الغيار محدود، فيتم شراء المنتج الصيني بدلا من اصلاح المنتج الموجود، ثم يرتفع سعر المنتج الصيني لعدم وجود منافس.
يحذر جبريل بأن غلق الورش يعتبر كارثة لأنها المدرسة الحقيقية للمهن والحرف في ظل فشل منظومة التعليم الفني “إحنا على اعتاب المعاش، وإن منقلناش الصنعة لجيل جديد هتنقرض زي غيرها”.