هناك أشياءً أبعد من القصة وتسلسل الأحداث يحكيها الأدب، وإلا لماذا نقرأ تلك القصة – وكثير غيرها – التي نحفظ بدايتها ووسطها ونهايتها، شخوصها وأركانها، ولا يوجد الكثير لإضافته في رسم الشخصيات، تكوينها ودوافعها وحتى مصائرها، حتى السطر الأخير باهتمام؟
كُتبت (وتُرجمت) هذه الرواية بلغة جذابة، حية ومتزنة، تتأمل جملها القصيرة، المتراصة كقطع بازل، فيما يعتمل في صدر أبطالها، بلغة أقرب إلى التقرير، وتأمل أقرب إلى الشعر، وتكافئ القارئ الصبور الذي عرف القصة منذ اللحظة الأولى، بسرد غني بالوصف، وقدرة عظيمة في الانتقال بالزمن بين كتبها أو فصولها، وأحيانًا في الفقرة الواحدة.
كان الكاتب المخضرم يعي عبء تكرار القصة، لا في التلفزيون الذي كتب له، ولا في الأدب، وإنما في حياتنا اليومية، إذ نرى تجارب الانفصال والعودة وما تخلفه من آلام ودمار في نفوس الأبناء، ولعله لهذا – ولأسباب شخصية أخرى – أراد أن يقدم القصة من ثلاثة زوايا، مانحًا أطرافها الثلاثة فرصة لسرد الكارثة.
تستطيع أن تميز بسهولة من حظى بالمساحة الأوسع التي تربط السرديات الثلاثة، وأن تقهم لماذا، وليس هناك عيب في هذا، وإن كنت أفضل أن تمنح المساحة الأكبر والأفضل للطرف الثالث صاحب الكتاب الثالث في هذا العمل، الذي لم يحظ بعمق وتأمل كافي لتأمل ما جرى أو توابع الكارثة.
سأجرب في السطور التالية أن أكتب بلا حرق للأحداث، لذا كن حذرًا وأنت تقرأها.
يعجبني أنها رواية لما بعد وقوع الكارثة، هناك ثلاثة مستويات لها، تخفي كل واحدة الأخرى تحتها، ونكتشف أن الكارثة الأخيرة والمفاجئة، برغم أنها طبيعية ومعتادة، لكن براعة الكاتب في الاستغراق في الكارثة الأولى، ووصف هول الكارثة الثانية ووقعها على عجوز قلق وضعيف أنهكته تجربة الكارثة الأولى، واستسلم لتوابعها، ثم كشف الستار في المستوى الثالث، حيث السردية الثالثة، عما كنا نتوقع أن يغفله، طارحًا سؤال الأكبر والمستتر.
تبدأ الرواية بفقرات من خطابات كتبتها فاندا إلى زوجها الذي انجرف فيما يمكن اعتباره نزوة منتصف العمر مع فتاة في التاسعة عشر من عمرها، ينفصل عن أسرته المكونة من زوجة وطفلين، ساعيًا إلى الحصول على فرصة حياة جديدة انعكست على حياته العملية، لن تفاجئك النبرة المرة الموبخة، واستخدام كل الحيل للإهانة مع الرغبة في استعادة الزوج، حيث قدم الكاتب بسهولة وسرعة كل المعلومات المهمة والممكنة لمعرفة طبيعة الشخصية ودوافعها ومصدر ضعفها وألمها ممهدًا بإيحاء واضح لتوضيح دورها في حدوث الكارثة.
في هذا الخط، وفي الكتاب التالي، لن ترى في شخصية فاندا إلا صورة نمطية للمرأة النكدة بطبيعتها، أو في أحسن الأحوال لن تستطيع أن تجد في الشخصية الأدبية المرسومة ما يتخطى إطار المرأة المتألمة، فتاريخها المكتوب – مقارنة بزوجها ألدو – محدود، وبلا أي ملمح لإنسان طبيعي عاش دقيقة خارج هذا الدور الذي فرضته عليه الرواية، وبطبيعة الحال المجتمع، الزوجة – الأم – الضحية، ثم الضحية متقمسًا دور جلاده في هيمنة مخيفة، وسيختلف موقفك من الشخصية بالتأكيد طبقًا لموقعك في الحياة، لكننا جميعًا قد نتفق في كونها شخصية أدبية كليشيه، تتطور في أطارها المحدود.
أما عن ألدو، الزوج الذي هرب من هذه الحياة، من أهال على أسرته التراب، محاولًا تجاوز دوره – في حجج واهية – كزوج وأب، والانخراط في حياة بلا مسئوليات، ستفاجئه بمرور الزمن إنها ستسحب منه امتيازاته بتقدم عمره، وخروجه من مضمار سباقها، فهو يتحرك بالزمن من نشأته الصعبة التي شكلت هذه الشخصية المضطربة، ثم تكوين أسرة لم يشعر أنه راضي عن دورها بها، وبعكس زوجته، كان لديه الفرصة، والجرأة لرفض هذا الدور المفروض عليه من مجتمع يقدس الأسرة ويعتبرها وحدته الأصغر والأهم، وتنكر على الفرد، زوج وخاصة زوجة، حقه في اختيار ما قد لا يناسب تماسكها، وفي المساحة الأكبر ينتقل هذا الخط بالزمن إلى الأمام، حيث عيش لحظات الرعب بعد وقوع الكارثة الأكبر والأهم، بصوت عجوز أعلن استسلامه، فيما كان يخفي أدوات انتقامه السلبي في الزوايا البعيدة والمظلمة في الرواية.
تجيب السردية الثالثة، وهي تفسر الكارثة الثانية، إذ لم تكن إلا الوجه الآخر لها، على سؤال الكاتب حول الخلاص الجماعي، إنقاذ الأسرة على حساب الفرد، وتوضح بالنموذج الحي أن العودة الشبحية للزوج (الأب) إلى أسرته لم تنقذ شيء، إن لم تساهم في وقوع الكارثة الأكبر، ولم تحمي الأبناء من ألم الهجر والانفصال، لأن لا مجال لممارسة دور مفروض على الفرد، وسيبقى من يمارسون هذه الأدوار – أزواج وزوجات – موجودين في هذه الأسرة من أجل تسديد الخانات، والحفاظ على شيء قد تداعى بفقدان الرغبة في وجوده.