هذا الصباح، فوجئت بنفسي أتصدى لعشرة كلاب تعوي تجاه طفل في العاشرة من عمره وهو يبكي خوفا، ويريد أن يلتقط لعبته من الرصيف المقابل. توقفت الكلاب عن العواء، لكنها ظلت في أماكنها تأهبا لمعركة. حميت الطفل إلى أن التقط لعبته، ووجدتها لعبة يمكن استخدامها في قذف الكلاب، فاختلف دوري وتصديت للطفل.
وبخته وعنفته إن كان يؤذي الكلاب، وظللت في مكاني أحميها حتى غاب الطفل عن الأنظار. ونظرت إلى الكلاب لأجدها تنصرف في سكون. لم تكن ردة فعلى بدافع الشجاعة، بل كان درسًا من دروس أبي محفورًا في عقلي اللاواعي، فإن كان بي شيء من قساوة فهي منه، وإن كان بي شيء من ذكاء فذلك بسببه.
الكلب سُمي كلباً لجبنه، برغم شراسة أسنانه. ألا ترين أنه عندما نقول إن فلاناً كلب، نقصد أنه جبان وخسيس ولا نعني الوفاء؟! لذا، إذا اعترضكِ كلب وكنت وحدكِ فلتمسكي بحجر وكأنك في تأهب لقذفه به وسيهرب. عليك أن تتأقلمي مع شراسة العالم كتأقلم طرزان وإيمانه بأنه ابن غوريلا.
رغم تمتعه بحس فكاهة عال، إلا أنه دائما ما يدعوني لتوخي الحذر. وفقا لأبي، توخي الحذر أفضل من الوقوع في المخاطر، لأنك إذا خسرت، سيكون عليك رد كرامتك وأخذ حقك، إلى جانب تعب الأعصاب وقلة النوم ولوم النفس لفداحة الخطأ.
لا تقعي في خطأ!
لا تتركي حقك!
لا تخسري!
هناك دائما مخرجٍ ما.
رغم قساوته، إلا أن ما علمني إياه جعلني في نظر الناس “ناصحة” ولدى البعض “ذكية. نفس الدرس حاول أن يعلمني إياه كمال في آخر لقاء بيننا: لا تتزوجي! الانفصال ليس سهلًا! نحن خلقنا وحيدين وتعساء!
لا أستطيع أن أذكر باقي الحوار، فأنا للأسف أصاب بالغباء وبعض الصمم معه. تغريني كثيرا عيناه اللتان تتسعان عندما يتحدث بحجة قوية عن شيء يؤمن به، وتضيقان عند تأففه وإنكاره لشيء يمقته.
على عكس جميع المصريين، كمال لا يستخدم يديه للتعبير عن أي شيء، بل يستخدم رقبته، يشيح بوجهه يمنة ويسرة وكأنه يقلب الأفكار في رأسه. عندما يُحدق بشدة لشيء ما على الطاولة بين يدي من أمامه فلتعلم أنه إما ينتقدك بداخله، أو سيتلفظ بعبارة انتقادية لك، لتسارع حينها بمناولته كاسا من الماء لأنه لن يرفضه، كي يبتلع تلك السخافات على أطراف لسانه.
لا تغرينّك ثقته الكاملة بالحديث عن أي شيء! لا تجعل ضيق عينيه واقتضاب جملته ورفعه المفاجئ لكف يديه على الطاولة يهزك؛ لأنه كثيرا ما يتلفظ بحماقات قضى نصف عمره في التفكير فيها ولكنه وصل لنتيجة في منتهى الغباء، لا بل نقل في منتهى اليأس؛ لأني أحبه. لا تنسَ التركيز مع شفتيه! فعندما يشعر بشيء جميل، سيبسط شفتيه لمنع نفسه عن التفوه بأي جميل.
المهم، احذر جيدًا من ضيق شفتيه! ولتتركه حين تأففه لأنك لن تكسب شيئا من الجدال معه فيما هو مقتنع به. هو عنيد، فقط تقبله كما هو! أساسا، لن يسعك سوى محبته بما هو عليه من سوء ويأس. ستجد ذلك مبهجا بدرجة ما وأنت تشاهد صراعا بشريا مجسدًا أمامك، كمتعة النظر إلى البحر وبهجة أمواجه. برغم غدره، وبرغم بؤسك يا كمال.
أكبر مخاوفي من كمال هو أنه يشبه أبي، وأكثر أسباب شعوري بالأمان معه هو أيضاً شبهه الكبير بأبي! من الصعب العيش بالقرب من شخص يصارع الكون في رأسه، أنا نفسي كذلك. عقلي يقول إن الحياة بالقرب من شريك سويّ أفضل كثيرًا من أصحاب الاضطراب. لكن الله أنزل على قلبي رحمة لا أفهمها تجاه كمال. مهما فعل أغفر له مساوئه وأؤمن بطيبة قلبه وحنيته ورحمته المتمثلة في وضوحه وصراحته. هو وحده يضيع معه كبري وقساوتي، وأصبح “كائن كيوت وأخلاق” في نظر نفسي. ليمضي العمر برفيق أو بدونه، لتمضي الأيام، وأنا معه أو عليه. المهم أنه هناك، في مكان ما، أحكي عنه للجميع، وكأني أحكي عن زهرة برية لم يرها غيري، أو جني أراه أنا مخلوقًا بديعًا، ويراه العالم جنيأ بشعًا. هذا ليس حباً وإنما الرحمة التي ينزلها الله على قلب المرأة لتغفر وترحم من حقًا تحب.
الوسوميوميات