يوميات النشرة
فى الأشهر الأربعة الماضية شعرت بأننى فقدت صوتى عندما انقطعت عن إرسال النشرة، صحيح أننى كنت أكتب لنفسى من آن لآخر، لكن انقطاع صوتى عن الخروج إلى العالم، أشعرنى بعزلة ما؛ فالاتصال بقارئ مُحتمل، يُعطى للكلمات قيمة إضافية.
لأسبابٍ سأشرح بعضها فى تدوينة هذا العدد، اهتزت ثقتى بهذا الصوت، وبقدرته على التأثير. إنَّ أعزَ ما يملكه الكاتب هو صوته، عادةً لا يمتلك غيره، فإنْ فَقَدَ الإيمانَ به، فَقَدَ قيمتَه، وصار الكاتب فقيرًا.. بل مُعدمًا.
أجراس الذاكرة تدقُّ من أجل المقاومة
مصطفى على أبو مُسلِم
لعدة أشهرٍ، دخلت معارك عدة فى مواجهة الصفحات الفارغة من أجل كسب أرض الشعور بالجدوى، ذلك الشعور الداعى لفعل أى شىء، والقادر على إنهاء حالة الجزع التى سيطرت على أغلبنا أمام هول ما نشهده طوال عام.
كنت أتساءل؛ هل يمكن أن يكون الأدب مجديًا وقادرًا على المقاومة فى اللحظة الراهنة؟ هل يستطيع أن يوقف – أو على أقل تقدير يعطل – آلة الحرب شديدة البطش التى لا تحارب مَن يُقاومها فحسب بل تَبيد الناس وَتُسَوِّى مَا كان وطنًا لهم بمستوى الأرض.
وإنْ لم يكن هذا دور الأدب – أو دور أى شىء آخر نفعله – فما الداعى للاستمرار فى ممارسته؟ إنَّ هذه الحرب أعادت تعريف أبسط الأشياء لكل مَن يحمل بين ضلوعه قلبًا سليمًا، فكان من الطبيعى أن يُطرح هذا السؤال ضمن أسئلة أخرى.
المحو بالنسيان
استيقظ ملايين من البشر فى صباح السابع من أكتوبر على عملية كبيرة قامت بها المقاومة الفلسطينية، حيث اقتحمت فيها غلاف غزة، وبدا لأغلبهم – فيما بعد – أنَّها كانت نقطة البداية لمأساة إنسانية كبيرة تحدث فى القطاع المُحاصر منذ سنوات. المفارقة أنَّ بعض هؤلاء الملايين يعيشون فى بلدان الشرق الأوسط، ويظنون أن لولا السابع من أكتوبر ما كان ليعانى الفلسطينيُّون ما يُعانونه الآن!
يعلم الإنسان الواعى أنَّ تلك المأساة لم تبدأ فى السابع من أكتوبر ولا فى الخامس من يونيو ولا فى أسابيع النكبة ولا عشية إعلان دولة الاحتلال، وإنما منذ عقودٍ قبل الانتداب البريطانى، وهذه الحقيقة هى أولى ساحاتٍ تبدأ منها المقاومة.
أجراس الذاكرة
يدُقًّ الكاتب الفلسطينىّ “إبراهيم نصر الله” أجراسًا ثلاثة لإيقاظ الوعى الغافل عن دور التلفيق والكذب الذى مارسته الصهيونيّة من أجل إقامة دولتها، وبدون هذا الدور لم يكن البطش وحده مجديًا أمام شعب ما زال يقاوم لأكثر من 77 عامًا من تاريخ النكبة.
نُشرت “الأجراس” المكونة من ثلاثة روايات هى “ظلال المفاتيح” و”سيرة عين” و”دبابة تحت شجرة عيد الميلاد” سنة 2019، وهى ضمن المشروع الروائى الممتد لـنصر الله “الملهاة الفلسطينية”.
وتغطى الروايات الثلاثة أحداثًا جرت فى 40 عامًا على أرض فلسطين، ويُمكن اعتبارها روايات منفصلة متصلة، يمكن قراءة كل واحدة على حدة كعمل مستقل، لكنها تُشكل صورة أكبر للصراع العربى الفلسطينىّ ما بين حرب 1947 والانتفاضة الأولى سنة 1987.
تقتله امرأة.. ثلاث مرات
لم يخشَ “ناحوم” شيئًا أكثر من أن تقتله امرأة، امرأة عربية. وهو عار لم يشعر به عندما ألقى بجسد طفل نحو الوادى، أو قتل أسيرًا عربيًا أعزلًا ثُمَّ مَثَّل بجثته من أجل استخراج “رصاصة الحظ” منها.
كانت “مريم” هذه المرأة التى تسرد في رواية “ظلال المفاتيح” لقاءاتها الثلاثة بالجندى الصهيونى.
تبدأ اللقاءات الثلاث سنة 1947 عندما لجأ الجندى فى عصابات الهاجاناه إلى الاختباء بحظيرة دارها، وكان عمره آنذاك 17 سنة مثل عمر ابن “أم جاسر” الذى يحارب مثل هذا الدخيل، ولهذا رأت أن تصفح عنه وتعمل على إعادته من قرية “راس السرو” إلى أمه فى “ملبس”، إذ أن “حتى الوحوش تحب أبناءها” كما تقول مريم للجندى الصغير.
لم يجدِ إحسان أم جاسر مع مَن اعتاد الإجرام والتلفيق حتى على نفسه، إذ سيواصل ناحوم التبرير لنفسه كلما ارتكب جريمة فى حق أصحاب الأرض بأن “لو لم يستحقوا هؤلاء العقاب، لم يكن ليرسله الله لهم”. وفيما بعد سينال ناحوم “شرف” تفجير قرية أم جاسر بعد تهجير أهلها منها.
فى المقابل، لم يجدِ محو وجود الفلسطينيين من على أرض القرية أيضًا، إذ ظلت ذاكرة أم جاسر حيَّة، تنسى كلَّ شىء حدث بعد النكبة، لكنها تستطيع إعادة رسم شكل قريتها على أرضها مجددًا بعد مرور عقود من تهجيرها عنها.
استطاعت هذه الرواية القصيرة التى تقع فى 142 صفحة فحسب، أن تشير إلى دور الذاكرة فى هذه الحرب، إذ تستطيع بعث ما طمرته أكاذيب الصهاينة، ويُمثل بقاؤها حيَّة هزيمة مستمرة لمَن هو مثل ناحوم.
ذاكرة العين
اعتمد نصر الله فى ثلاثيته على شخصيات وأحداث حقيقية، لكنه أعاد بناءها فى الخيال كما ينوّه فى بداية كل رواية، وفى الجزء الثانى الذى حمل “سيرة عين”، سلَّط الضوء على شخصية المصورة الفلسطينية “كريمة عبود” التى عاشت مع أسرتها بالقرب من كنيسة بيت لحم، وقد شغفت بالتصوير منذ سن مبكرة.
استخدم نصر الله أسلوبه كشاعر فى غزل صور شعريّة حيَّة لمدن فلسطين بعينى مصورة شابة تشبه عينى الكاتب الذى عرف التصوير كما عرف الرواية والشعر.
وتقاوم صور كريمة عبود للشوارع والبيانات التى تدُب فيها حياة الفلسطينيين، الزيف الذى زعمه تيدور هرتزل وغيره من آباء الصهيونية بأن أرض فلسطين ملعونة ومهجورة وبلا شعب، وبالتالى فهى حقٌّ لأمَّته التى كانت بلا أرض لمئات السنوات.
هذا الزعم الذى حاول تأييده مصورين صهاينة مثل شخصية “موشيه” فى الرواية بنشر صور مزيفة لأراضى فلسطين وهى مهجورة بلا سكان لتشجيع يهود العالم على الهجرة إلى الأرض الموعودة.
وتُكمل ذاكرة العين (الصورة) كوسيلة توثيق لذاكرة الإنسان الفلسطينىّ، المُجسد فى شخصية مريم فى الجزء الأول من الثلاثيّة، الذى حفظ فى عقله شكل وطنه الحقيقى قبل التزييف والتهجير.
أجيال مقاومة
جمعت رواية “دبابة تحت شجرة عيد الميلاد” خيوط الروايتين الأولى والثانية مع خيوط جديدة، إذ نرى “ناحوم” مجددًا وقد اتخذ لنفسه اسمًا جديدًا وهو “داوود” الذى تدرج فى مسيرته حتى وصل إلى منصب الحاكم العسكرى لبلدة بيت ساحور، ونعرف كيف وصل “موشيه” المزوِّر إلى أرض فلسطين وأبعاد جديدة عن أصله وقصته، فيما تتبع الرواية سيرة أجيال بدأت بإسكندر الذى حارب فى الحرب العالمية الأولى، وتنتهى مع أجيال جديدة من المقاومة فى الانتفاضة الأولى.
وبرغم حوادث الاغتيال والبطش والتعذيب والحصار التى وثقتها الرواية، وهى الأطول بين الثلاثة روايات، نجد أنفسنا فى مفارقة شديدة الإلهام والطرافة حيث يجد الحاكم العسكرى نفسه يطارد عدة بقرات يزعزع وجودها الحصار العسكرى والاقتصادى الصهيونى على البلدة من أجل كسر مقاومتها، وقد أعادت له هذه البقرات ذكرى اختبائه بحظيرة أم جاسر، فمثلت له كابوسًا جديدًا لم يستطع إنهاءه إلا بانتهاء الحصار وانسحاب قوات الاحتلال من البلدة ووصول مراسلى وكالات الأنباء إليها.
الأدب كإجابة غير نهائية
فى الحقيقة لم أتمكن من الإجابة على تساؤلاتى التى طرحتها فى مقدمة هذا المقال، لأن الأدب لا يعمل بهذه الطريقة المباشرة، ولا يستطيع أن يقف وحده فى المواجهة، ولهذا قد نشعر أحيانًا أنَّه غير مُجدٍ فى لحظات الأزمة.
لا تُعد ثلاثية الأجراس وحدها هى العمل الوحيد الذى إن قرأتها عرفت جدوى الأدب والكتابة، فهناك عشرات من الأعمال التى كتبها عرب عمومًا وفلسطينيون خصوصًا ساهمت فى تزكية ذاكرة المقاومة لدى أجيال جديدة.
الخلاصة على أن الأدب يُمكن أن يفعل عدة أشياء، منها إبقاء الجرح حيًا ونازفًا لكى لا يتقيّح ويتعفن جسد الذاكرة فيُبتر منه عضو وراء الآخر إلى أن يفنى الجسد تمامًا ، وأن الذاكرة التى ركّز عليها إبراهيم نصر الله فى ثلاثيته هى إحدى أسلحة المقاومة، لأنها تحيى الشعور بالحق وهو أساس المقاومة.
مجلة الحائط
اقتباس العدد
لا نص قصير يمكن ترشيحه للقراءة هذا العدد، ما زال بإمكانك عزيزى المشترك استغلال هذه المساحة التى سأترك بقيتها فارغة فى هذا العدد من أجلك، لعلك تحتلها المرة القادمة بنص قصير (يُفضل أن يكون عن الكتابة)، لا تتجاوز عدد كلماته عن 150 كلمة (لن أرفض نصًا طوله 151 كلمة بالطبع)، أو أقل من 850 حرفًا (تُطبق نفس الشروط والأحكام).
تُرسل النصوص بأى طريقة، ومنها الرد على هذه الرسالة، أو التواصل معى عبر بريدى الإلكترونى:
ترشيحات
اغتالوا ناجى العلى ويحاولون اليوم اغتيالنا
حلقة من بودكاست “سينما صيفى”، من إعداد وتقديم المخرج المصرى بسام مرتضى، ومن إنتاج موقع “مدى مصر”، تُلقى الضوء على الأجواء التى صاحبت إنتاج وعرض فيلم “ناجى العلى” فى سنة 1992، الذى واجه حملات قوية لمنع عرضه، وهجومًا شديدًا على صناعه: نور الشريف وبشير الديك وعاطف الطيب. وهى حلقة مناسبة للاستماع فى ظل نكبة جديدة يعيشها العالم العربى، وتعيد إلى الأذهان دور الفنان والمثقف فى قضية مركزيّة مثل هذه، والذى غاب عن الساحة الآن لأسباب كثيرة يطول شرحها.
- (سبوتيفاى – آبل بودكاست)
الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية
كما سبق وأن أشرت، لا مقاومة بدون وعى، وأن أهم ما يركز عليه هذا العدو بالذات هو العبث بالذاكرة. يقدم هذا الموقع الغنى تسلسلًا زمنيًا (كرونولوجيا) مفصلًا عن تاريخ فلسطين بدءًا من الحكم العثمانى فى القرن الخامس عشر وحتى سنة 2020.
بالإضافة إلى هذا فالموقع غنى بالسير للأعلام الفلسطينية، ووصف شامل لمئات القرى التى دُمرت فى النكبة.
كتاب العدد
هل وصلتك النشرة عبر صديق؟ يمكنك التسجيل لتصلك فور صدورها عبر هذا الرابط
كتب وأعدَّ هذا العدد: مصطفى على أبو مُسلم – راجعه ودقَّقه: عبد الرحمن والى