عزيزى معتز،
لا أعرف الدافع وراء الكتابة إليك. هل بحثك عنى أنا وأخى “فيلهم” يسمح لنا بالاقتراب منك ومراسلتك ونحن فى عالم آخر غير الذى تعيش فيه أنت الآن؟
منذ قراءتك لكتاب “حكايات الأخوين جريم” وأنت تبحث خلف حياة كاتبيه، وخلال رحلة بحثك رحت تحكى لكل من تقابله عن الأخوين باعتبارهما من اكتشفا قوة الحكايات.
للحكايات يا صديقى تردد مختلف عن الواقع، تختفى داخل عالمها الخاص، ويجعلك الاقتراب منها جزءًا من الحكاية سواء بإرادتك أو بغيرها!
ما الذى تريد معرفته عنا؟ هل تريد سماع حكايات عنا فى فترة اللهو قبل وفاة أبينا القاضى المحترم؟ سنوات المال الوفير والأكل بلا أنصبة؟ هل تريد وصفًا لحياة الترف مقابل حياة العوز بعد وفاة الوالد المفاجئة؟
فى الحقيقة لا أجيد رواية هذه الحكاية، كنا مجرد صغيرىْ السن ولم نستوعب العالم بعد، وشخصيتنا التى تسعى وراء معرفتها قد تطورت لتصبح كما نحن الآن.
لكنك تستطيع الربط بين انتقالنا إلى منزل أصغر وأقل فى التكلفة والمساحة مع بداية الجمع للقصص الشعبية، ربما كى نهرب من واقعنا الصعب. لم يكن هذا السبب الوحيد، فالمتعة البحتة سبب مهم جدًا.
ذات مرة وأنا أسمع إحدى الحكايات من فلاحة عجوز، وبينما هى تحكى لى عن قلعة ما، أحسست باختفاء الواقع تمامًا، وانتقالنا إلى تلك القلعة بكل جمالها وقبحها بكل طبيعتها الجميلة ووحوشها القاتلة. باختصار: كانت تحمل كنزًا تجعل للحياة طعمًا مختلفًا.
وأظن أن كلمة السر في معظم الحكايات التى سمعتها هى القلعة، ذلك المبنى التراثى المختلف والجميل، مع مرور سنوات وسنوات تزيده شموخًا وجمالًا و رهبةً، سواء كان من يحكي راعية غنم، أو فلاحة ورثت حكايات عجيبة عن القلعة العالية البعيدة التى تشرف على القرية بفخامة، وحولها أو في الطريق إليها تنتشر الوحوش الضارية المختلفة مثل الخفافيش والثعابين ومصاصى الدماء والسحرة.
والآن يأتى السؤال الذى كنت تريد الإجابة عليه: لماذا الحكايات؟ لماذا هى مهمة؟ ولماذا قضينا كل هذا الوقت فى جمعها؟ وهل تستطيع الكتابة توحيد الناس؟ وهل يمكن اعتبار الحكايات الشعبية هى صمغ اللغة الحقيقى فعلًا؟
يقول أخى فيلهم جريم إن “القسم المشترك بين الحكايات الخرافية جميعها، هو كونها معتقدات تعود إلى أقدم العصور وتعبر عن نفسها من خلال تصويرها مدركات غير حسية، وهذه المادة الأسطورية تشبه شظايا حجر كريم متناثرة على أرض خصبة”.
ويشرح فيلهم أيضًا، فى إحدى مقدمات كتبنا، الطابع التعليمى والأخلاقى للحكايات، فتُمرر الموعظة من خلال المبالغة فى تصوير الشخص والحوادث والأفعال؛ فالخير والشر قطبان يهيمنان على حياة الإنسان ويتحكم هذا الصراع في حياة البشر إلى النهاية، ورغم توجيه الحكايات للأطفال لكنها لم تستهن بالشر بل تصوره عاتيًا قويًا، فى نفس الوقت يواجهه الخير بكل ذكاء وجرأة ويحقق بهما النصر.
لم يكن وسط الفلاحين أو أوساط الرعاة أحد يقرأ أو يكتب، وبالتالي لم يكن هناك أحد يعرف طرق التربية والأخلاق إلا من خلال الحكايات، وهذا ما اكتشفناه؛ ولذلك جمعنا هذه القصص لكي تستمر هذه الخبرة، وربما يفهم الآخرون أفكارًا مختلفة عنا.
وأريد أن أصارحك يا عزيزى بأن جمع الحكايات الشعبية لم يكن هدفنا النهائى، فبعد سنوات عديدة قادنا نشاطنا هذا إلى مشروعنا الأخير والأضخم: موسوعة اللغة الألمانية أو القاموس الألمانى، ربما لم تكن أول محاولة ألمانية، لكنها بالتأكيد من أخلص محاولات اكتشاف اللغة الألمانية ليس لمجرد تميز وتفرد هذه اللغة بخصائصها، لكن لأنها محاولة تبحث في الاتحاد كنتيجة لوجود كل هذا التراث المترابط من الخيال والمفردات المميزة لهذا الشعب الألمانى العريق.
ربما لو أُتيح لنا اللقاء كنت لأحكى لك عن شغفى أنا وأخى باللغة الألمانية التى اعتبرت وقتئذ وطنًا يجمع الألمان بعيدًا عن حروب الدوقيات والممالك، فاللغة يا صديقى احتوت على خيال ووجود مختلف ساحر حولها من مجرد كلمات بأحرف بسيطة إلى أماكن مختلفة ومشاعر متشابكة، بل حولها إلى وطن كبير رغم انقسام ألمانيا لعدة دوقيات وممالك.
ربما لو كنا فى عالم واحد لكنا التقينا أنا وأخى بك فأتحدث معك عن اللغة الألمانية التى كانت لغة مقاطعات متحاربة لم تتحد إلا بحلول سنة 1870 م، الأمر الذى سعى إليه كل مواطن بكل طريقة تقريبًا سعيًا حقيقيًا أو حتى كأمنية ، فاللغة فى حالة ألمانيا ليست مجرد مفردات لها أصوات، بل هي تجسيد للوطن ببساطة.
وباستخدام الحكايات وكأنها الرابط أو الأسمنت أو الصمغ الذي يجمع مفردات اللغة مع الشعب، تظهر للعالم ثنائية الحكاية الشعبية وكأنهما أصبحا اسم ثنائى مكون من أم وهو الشعبية (أو الشعب)، وابنه لطيفة باسم الحكاية.
هل هذا تبسيط مخل يا صديقى معتز؟ ربما، لكن في حالة ألمانيا والفرقة بين المقاطعات المتحدة أصلًا لغة وشعبًا، يفرقها فقط أطماع ومخالب سياسية، كانت ولا تزال اللغة توطد كل روابط ومحبة الشعب لنفسه ولأفراده أيضًا.
لم يكن نجاح الجزء الأول من كتاب “حكايات الأطفال والبيت” سنة 1812، سوى جزء بسيط يوضح مدى اتحاد الألمان على مستويات أعمق من السياسة واللغة بل على مستوى الحكاية البسيطة أيضًا.
المخلص،
جايكوب جريم
من عالم الحكايات
على فكرة