تنويه: يتضمن هذا المقال حرقًا لبعض أحداث فيلمي “جوكر” و”ملك الكوميديا”.
أمام المرأة التي لطالما أحبها، يقف روبرت بابكين، على البار مباهيًا بعرض تلفزيوني قصير لا يتجاوز عدة دقائق. من أجل لحظة كهذه كان “بابكين” يتأهب كل ليلة، يجري اللقاءات التلفزيونية – في خياله – قبيل ذهابه إلى العمل، وينتظر طويلًا أمام الأبواب الخلفية للمسارح والاستديوهات على أمل الحصول على فرصة يعرض فيها موهبته على أحد الفنانين، لكن ليس هذا يريده “بابكين” من العالم فحسب.
“ملك الكوميديا” ليس ملكًا حقيقيًا
توحي المشاهد الأولى من فيلم ملك الكوميديا “King of Comedy” الذى انتج سنة 1982، وقام بأدوار البطولة فيه كل من روبيرت دي نيرو، وجيري لويس، واخرجه مارتن سكورسيزي، أنك أمام فيلمًا يتناول حياة المهوسين بالمشاهير، أما إذا تابعته حتى منتصفه، فستدرك أنك أمام شخص يبدو محدود الموهبة، ولكن ربما تورطه أوهامه في أنه شخص موهوب، في المتاعب.
فلا شيء يدعم تصور “بابكين” بطل الفيلم عن موهبته واستحقاقه للفرصة التى يبحث عنها، حتى المشاهد الأخيرة من الفيلم، كما أن تتابع الأحداث لا يدع مجالًا للشك بأن ما لديه لا يعدو مجرد ضلالات كفيلة بأن تؤهله لدخول مصحة نفسية، فهو يمضي لياليه أمام الجدار المزين بصور جمهوره الافتراضي، يتمرن على رواية قصة حياته التي يجدها مضحكة، ويجري لقاءات تليفزيونية بجوار مجسمات كارتونية بالحجم الطبيعي لنجمه المفضل، جيري لانجفورد (جيري لويس).
مقدمة قصيرة في الفصام
“إن روبرت بابكين هو شخص فاشل في حياته لكنه يعتقد في خياله أنه من المشاهير، وأنه يقدم برنامجًا تلفزيونيًا- افتراضيًا- من شقة أمه التي لا يزال يعيش بها” هذا ما سيخبرك به محرك البحث الشهير “جوجل” عن بطل هذه القصة إذا ما بحثت عن فيلم “King of Comedy”.
ولا يذهب هذا بعيدًا عما تورده منظمة الصحة العالمية في موقعها الرسمي على الإنترنت، عن أعراض اضطراب الفصام التي تشمل “حالات تشوش في التفكير والإدراك والعواطف واللغة والشعور بالذات والسلوكيات عادة ما تؤثر على أداء الأفراد من الناحيتين التعليمية والمهنية”.
في الفيلم يتنقل بنا سكورسيزي، بين ضلالات “بابكين” بواقعية شديدة، فلا فاصل بين الأحداث الحقيقية وتلك التي يتخيلها ذلك الثلاثيني الذي لم يحقق شيئًا يُذكر في حياته، وكأنه يعرض لنا العالم بعيني مريض الفصام الذي لا يستطيع التمييز بين ما هو واقع وما هو خيالي.
تبدأ الأحداث باقتناص “بابكين” فرصة الدخول إلى سيارة “لانجفورد” عارضًا عليه موهبته، والأخير هو نجم تلفزيونيً لامعً يقدم برنامجًا كوميديًا شهيرًا، وهو بالتالي ليس نجمًا مفضلًا لـ “بابكين” فحسب، وإنما نموذجًا يحتذى به ومركزًا يصبو إليه. لذا فإن صداقة مفترضة في خيال “بابكين” تقربه من هذا المركز بسرعة ويسر، بل أنه يتخيل في إحدى شطحاته أن “لانجفورد” يرجوه أن يقدما معًا برنامجًا ولو لبعض الوقت لكي ينقذ جماهيريته التي تتناقص.
إن “هلاوس” بابكين والتي توحي له أنه يسمع كل ليلة في برنامجه المتخيل أصوات تصفيق جمهوره وصيحاته، ليست العرض الواقعي الوحيد للفصام، فالأوهام عرض آخر للفصام وهي معتقدات زائفة راسخة يتمسك بها المريض بشدّة، حتى في حال وجود بيّنات تثبت عكس ذلك، مثل تلك الصداقة المزعومة والتي ينفيها “لانجفورد” بنفسه عندما يتفاجئ بـ “بابكين” يقتحم منزله الريفي، بدعوة وهمية تخيل الأخير أنه حصل عليها من صديقه المزعوم.
جوثام.. لا رعاية نفسية في هذه المدينة
مة شيء يلمع في ذاكرة المشاهد عندما يرى آرثر فليك، الدور الذي يقوم به الممثل خواكين فينكس في فيلم “جوكر”، ينطلق من المنطقة المعتمة ذاتها التي خرج منها “بابكين”، فكلاهما يبدأن عقدهما الرابع دونما أن يحققا شيئًا يذكر، كما أن كلًا منهما يعيش في شقة أمه.
لا يجمع بين البطلين الطموح الفني في مجال الكوميديا فحسب، وإنما يتشاركان أيضًا “الوهم” حول موهبتهما، وخيالهما الجامح الذي يصور لهم أجواء الشهرة المرتقبة، بينما يمتهنا في الواقع، أبسط الأعمال التي لا توفر لهما حتى الاحترام من قبل الأخرين.
وبينما تغيب الإشارة صراحة للاضطراب النفسي في فيلم “ملك الكوميديا”، تحضر بوضوح في فيلم “جوكر” الذي يعلن من مشاهده الأولى عن إصابة بطله باضطراب- أو ربما اضطرابات – يتناول من أجلها سبعة أنواع من الأدوية المختلفة، دون أن يحدد أيًا منها، فيما يشير البطل إلى أصابته أيضًا بالتأثير البصلي الكاذب (Pseudobulbar affect (PBA التي تدفعه إلى عدم السيطرة على رد فعله، وعدم قدرته التماسك أما نوبات من الضحك أو البكاء المفاجئ غير الملائم للموقف تنتابه فلا يستطيع ايقافها أو التحكم فيها.
وإذا ما كان الفصام إحداها، فسيكون “فليك” من المصابين الذين لا يحصلون على خدمات الرعاية المناسبة، ونسبتهم تتعدى الـ 50% من أجمالي المصابين، وفق “الصحة العالمية”، وستكون مدينة “جوثام” تلك المدينة الوهمية أيضًاـ أحدى المدن ذات الدخل المنخفض والمتوسط التي يعيش بها 90% من هؤلاء .
يخسر “فليك” حقه في الحصول على علاجه الدوائي، بجانب الجلسات التي كانت تقدمه مصحة أركام اسايلم Arkham Asylum بفقدانها التمويل اللازم لبرنامج رعاية مرضى الاضطرابات النفسية، ليبدأ في مواجهة المجتمع الذي ينبذه، وهاهى أسباب نبذه لهذا المجتمع تزيد بعد فقده برنامج الرعاية اللازمة.
وجهان للغضب
بينما ينزلق “فليك” بدون أدويته في أعراض أمراضه النفسية راحت مدينته “جوثام” تهينه وتسحقه، يُطرد من عمله، ويوسعه ثلاثة سكارى ضربًا في عربة المترو، لا لشيء سوى أنه لم يستطع التوقف عن الضحك.
في الأنفاق، وتحت وطأة إهانته من هؤلاء السكارى، تولد شخصية “جوكر”، مدافعًا عن نفسه لأول مرة، فيقتل الثلاثة واحدًا تلو الآخر. أما فوق الأرض فيتأجج غضب ، توماس واين، السياسي البارز ورجل الأعمال لأجل القتلى الذين يعملون لصالح شركاته، معتبرًا أن القاتل الذي يختبئ خلف قناع مهرج لا يختلف كثيرًا عمن يحقدون على الأغنياء، فجميعهم بالنسبة له مهرجون.
اعتبر بعض النقاد أن غضب “واين” واشتعال الاحتجاجات الغاضبة بعد تصريحاته قفزة درامية كبيرة وفي غير محلها، لكن ورقة بحثية تشرح لنا التعبير عن الغضب العارم في وجهين، الأولى غضب الأغلبية المهيمنة ممثلة في “واين” وطبقة الأغنياء التى ينتمي إليها، وميل الأغلبية للرد بأسلوب دفاعي وبغضب عارم عند اتهامهم بالإجْحاف، وهو ما يفسر تحليل “واين” الغاضب والواسع للجريمة التي ارتبكت تجاه أفراد من طبقته.
أما الوجه الآخر للغضب الذي تفسره الورقة التي نشرت في دورية تريندز ان كوجنيتيف ساينسيز Trends in Cognitive Sciences، ديسمبر 2018، فهو غضب الفئات المهمشة التي يسهل وصمها بأنها أكثر غضبًا عمومًا من غيرها، فقد يعتبر الغضب الهين الذي يعرب عنه الرجل الأسود في الولايات المتحدة على سبيل المثال غضبًا متطرفًا، أو وصم غضب الطبقة الكادحة في “جوثام” تجاه أوضاعهم بأنه تعبير عن الحقد ضد الأغنياء، لا أكثر ولا أقل من وجهة نظر “واين” وطبقته.
ولكن ماذا عن ذلك المجتمع الصغير (العائلة) الذى عاشا فيها كل من “جوكر” و “بابكين” وكيف أسهم هو الأخر في هذا التحول الجوهري في شخصيتهما.
دور الأب في حياة “جوكر”
يغيب دور الأب في حياة فليك “جوكر” كما لا يأتي على ذكره في حياة بابكين “ملك الكوميديا”، لذا نرى توحد “فليك” مع مقدم برنامجه المفضل ميوري فرانكلين، والذي- للمفارقة- يقوم بدوره النجم الأمريكي روبرت دي نيرو أيضًا، ويعتبره “جوكر” بمثابة الأب، بل إنه يجعله في عالم خياله يعترف بأنه هو الأبن الذي لطالما تمناه “ميوري”.
وإذا ما كان دافع قتل “فليك” للموظفين الثلاثة في المترو هو الدفاع عن النفس، فإن قتله لـ “ميوري” في نهاية الفيلم كان بمثابة قطع هذه الصلة المتخيلة مع الأب الذي خانه بالسخرية منه على مرأى ومسمع من العالم، قطع الصلة بالتوازي مع هذا المجتمع الكبير الذي لطالما أراد فيه فرصة لأن يصنع البسمة على وجه من يعيشون فيه، فقطع عنه الدعم الطبي وغيب الأب عن حياته وتركه ضحية تحت يد حبيب أمه الذي تسبب في اصابته بصدمة دماغيةTraumatic brain injury أدت إلى إصابته بالتأثير البصلي الكاذب ذلك المرض الذى رفض المجتمع الاعتراف به كما هو حاله مع صاحبه.
يرسم الفيلم تاريخًا استثنائيًا للمجرم السيكوباتي الذي لطالما وقف وراء أكبر الجرائم في مدينة جوثام التي يحرسها البطل الخارق “الرجل الوطواط”، فيفسر لماذا وجد “جوكر” الذي ولدت حكايته في الأنفاق مع ارتكاب “جريمته” الأولى، وحصل على اسمه في أستديو “ميوري”، حيث يقدم برنامجه الشهير.
فبينما ينكره توماس واين، الأب الذي تزعمه الأم، وهو نفسه الأب للشخصية الشهيرة المتخيلة “باتمان”، ويقابله “ميوري” الأب الذي تمناه بالسخرية عوضًا عن الإعجاب، يعترف به المتمردون الخارجون على القانون، ويصبح لهم رمزًا أيضًا.
الاعتراف أخيرًا.. ولكن بأسوأ صورة
لأول مرة المجتمع يُعترف بـ “فليك”، لا كممثل كوميدي كما يتمنى، وإنما كوجه للعنف والفوضى في وجه فساد الساسة، بل وصار قناعه رمزًا للانتقام وليس للثورة، الأمر الذي ربما أثار ريبة وترتيبات أمنية عند عرض الفيلم في بعض الدول.
في حديثه مع طبيبته النفسية للمرة الأخيرة أفصح “فليك” لأول مرة عن نشوته بأن الناس قد بدأوا أخيرًا في الالتفات له، بعد أن كان يشك، هو نفسه، في وجوده بالأساس. لذا لم يكن مهمًا له ما يمثله “قناع جوكر” سواءً كان ثورة وقضية عادلة أم حالة من الفوضى والانتقام!
ولعل المجتمع نفسه لا يعني شيئًا لآرثر فليك، المريض النفسي الذي يدون خواطره “إن أسوأ ما في المرض النفسي أن الناس يتوقعون أن تتصرف كما لو كنت لست مصابًا به”. وهنا لا يعاني من إنكار شخصه فحسب، وإنما نبذه لأنه لا يتصرف كما الآخرين!
لكن ما الذي يريده بابكين حقًا؟
إن روبرت بابكين شأنه شأن آرثر فليك يريد الشيء ذاته، وهو الأمر الذي يعيه النجم السينمائي الاستثنائي خواكين فينكس، لذا حرص في المؤتمر الصحفي عقب تسلمه لجائزة “جولدن جلوب” عن دوره في الفيلم على ألا يذكر أسماء “القتلة السياسيين” الذين قرأ عنهم من أجل الإعداد للفيلم، والذين يتشابهون مع شخصيته التى أداها، لأنهم قد حظوا على “ما يكفي من الانتباه”.. هذا بالتحديد ما كان يصبوا إليه كل من “بابكين” و”آرثر” وغيرهما ممن قد يرتكبون الجرائم من أجل مجرد “الاعتراف بهم” في هذه الحياه.