مرت فترة المراهقة والعشرينييات من عمري بسلاسة تامة، مع تهميش حياتي العاطفية أيًا كان من فيها. كان شغلي الشاغل هو الغد؛ لم أطمئن لوجود الله حينها رغم أنني كنت أكثر تدينًا والتزامًا من الآن. وكانت تشوب علاقاتي بأصدقائي فترات انقسام كبير؛ كان يتذمر الجميع من وجهي العصبي، ذلك الطرف الذي يمكنه الاستغناء دائمًا وأبدًا.. حتى عندما أفصحت عن كل شيء لأقرب صديقة لي، لم تكترث عند ذكرها للماضي أو لغدِ؛ كانت فظة. اتهمتني بالبرود والكتمان عندما كنت أكف عن مشاركتها أي شيء.
كانت علاقاتي مبنية على أساس واحد: القبول. إذا تقبلك الآخر كما أنت فهو صديقك أيًا كان من هو وأيًا من تكون. طورت نظامًا دفاعيًا يحميني من فكرة أن يهمّ أحدهم بالرحيل. عاهدت نفسي حينها ألا أبوح لأحد بشيء، أراقب في صمت.
طوّر عقلي مع ذلك أنظمة تحليلية وأنظمة مراقبة.. يسهل علي مثلاً من البداية إدراك أن عم صالح يشرب الشاي بملعقة سكر واحدة، رغم أنني لم أعده له قط. يمكنني أن أبني تحليلات لذلك بمجموعة معطيات، أن عم صالح مثلًا لا يحب الحلويات، ويميل أكثر إلى الموالح، وأن من يعيشون الرفاهية عادة ما يكونون أكثر ميلًا إلى الحلويات؛ وأقصد برفاهية هنا أن يكون هناك من يحبك منذ الصغر، حب غير مشروط ولا يعتمد على ما حققت.
كنت أنا كذلك في صغري أدمن الشيكولاتة والجاتوه، حتى توقفت أمي عن حبي لأسباب تخصها.
كذلك يحب عم صالح الطعام حارًا، وألحظ أنه يكره الوحدة، فالأكل السادة لا مذاق له. لذلك كان يدعوني لأحاديثه وإن كانت مملة ومكررة، وأفاجئ بطول بالي وصبري، واستماعي وضحكي المزيف لجعله يشعر بأنه مقبول.
لم أستطيع أن أفعل ذلك مع أبي. أذكر مرة بسنّ الحادية عشر، وأنا أشاركه أحاديثي وهمومي المدرسية، أن نهرني بكل قسوة قائلًا: “انتي هتصدعي دماغي ليه!”. أيدته أمي وأمرتني بالانصراف، وبختني لأني “صدعت دماغه” كثيرًا، وأمرتني ألا أحادثه في الصباح أو المساء لأن ما فعلته كان سوء تقدير مني. الغريب أن أبي يستنكر كوني لازلت إلى اليوم لا أحادثه، ويستنكر كوني لا أحب أن “يدوش دماغي”. يقول أني ابنة غير، ولست مقدّرة لما فعله لأجلي.
يمكنني أن أتذكر كل ذلك عن أبي وعن عم صالح، وأن والدة مريم تكره الشاي بالنعناع، وأن أمين زميلي في المعهد لا يحب الشاي إطلاقًا، لأني لم أراه يحتسيه قط. من الجيد أن تملك ذاكرة مثل هذه؛ جميل أن تتذكر، وتراقب، وتحلل، لكن الذكرى تنمو فوق الأخرى، ككل الأمور التي فشلت فيها فظلت تخيف مخيلتك، ككل المشاريع التي ظلت معطلة على مكتبك، كنصف فنجان شاي بارد لا فائدة منه.. أو كصوت كمال حينما قال لي إنه “هيسيب مصر” عادي، فقلبي مؤهل لكل بُعد. قلبي غير مؤهل لأي بقاء.
أنت هناك يا كمال، وأنا هنا.
أراقب الأيام من خلف زجاج الحافلة، أراقبها تمر، وأحكم وأحلل، مكاني منذ أربعة عشر عامًا. الأيام ذاتها يا كمال، لم يتغير شيء سوى شعرة بيضاء ظهرت في مقدمة رأسي، وتجاعيد بسيطة تحت عيناي. تشرق الشمس وتغرب، والأرض إن أجدبت تطرح من جديد، لكن عيناي تذبلان. لا شيء يشيخ هنا سواي.. ترفه عني أشجار البونساي وجراء الكلاب.
ولا شيء يرويني سوى زياراتك القصيرة في رأس السنة من كل عام. وكأنك تعدني أملًا جديدًا؛ لا يزال هناك أمل أن تحبني يومًا ما، وكأن أربعة عشر عامًا غير كافية لأدرك استحالة ذلك. ذنبك أنى أرى بعين واحدة، وضعاف النظر قويوا العزم.. لم أفقد يومًا شهيتي للحياة بسببك.
أنت الشيء الوحيد المتحرك هنا، كشاطئ زيزينيا، يعلوه موج من فوقه موج.