الرسائل (5): “الاحتراق عمدًا” فى سبيل الكتابة

يوميات النشرة

قرر أكثر من 17% من المشتركين بالنشرة الإدلاء برأيهم فى استفتاء العدد الماضى (الرابع) حول تغيير اسم النشرة منالرسائلإلىمجلة الحائط، وقد اختار أغلبهم – بعكس ما توقعت – الإبقاء على اسمها الحالى!

وموطن دهشتى أن اثنين فقط من المشاركين فى الاستفتاء هما مَن اختارا اسم “مجلة الحائط”، وكنت أنا ثالثهما، لأننى تقبلت ما توقعت أن يكون رأى الجمهور، وذهبت معه قبل الأوان.

الدرس المستفاد هو ألا تفترض شيئًا، بينما يمكنك التحقق مما تتوقعه بسؤال الناس. على كل حال؛ شكرًا لكل من ساهموا فى هذا الاستفتاء، وسيبقى الاسم كما هو عليه.


صورة مُولدة بالذكاء الاصطناعى – عبر موقع stockcake

“الاحتراق عمدًا” فى سبيل الكتابة

هناك عدد لا محدود من البدايات لكل حكاية، عليك أولًا اختيار الـ Attack Point، لأنها ستحدد كيف ستبدأ نصك ممهدًا للوصول إلى هذه النقطة، اختر ما ستُفصح عنه فى البداية، وما تدّخره لتكشفه تدريجيًا للقارئ، هكذا يقول أستاذى.

يُكرّر معتز صلاح أننى مشروعه، فأُخفى امتعاضى أحيانًا، وأبديه أحيانًا أخرى. يُجرّدنى تعبيره هذا من أية خبرة كوّنتها بعيدًا عن تجربة تلمذتى على يديه كلَّ هذه السنوات. أكثر ما يثير ضيقى أنَّ ما يقوله هو أقرب إلى الحقيقة بشكل ما.

يكفى قراءة نصوصى القديمة لأرى – بنفسى – كيف كنت أكتب جمله القصيرة، وأرسم صوره المتلاحقة فى فقرات شديدة التكثيف تتكون من سطرين، وأُظهر حِسَّه الساخر الغارق فى عالم داخلى من التهاويم.

ألهذا السبب هجرت الكتابة لسنوات؟! هربًا من أن أكون نسخة مُقلدة عنه؟ أم من حصار إيمانه بموهبة لم أصدق يومًا بأنى أمتلكها؟!

جانب من الحديقة الثقافية للأطفال بالسيدة زينب (الحوض المرصود) من تصميم المعمارى عبد الحليم إبراهيم

أشبه بخلفية تاريخية

فى الحديقة التى كنت ارتادها بشكل شبه يومى فى طفولتى، يركض شاب فى منتصف عشرينياته وخلفه مجموعة كبيرة من الأطفال، وعلى بُعد أمتار تسأل مُشرفة نشاط ما مشرفًا آخر عن سبب ركض معتز بهذه الطريقة فيجيبها بسخرية “مخرج بقى!”، كنت أقف بينهما، طفل يراقب ويسمع دون أن يُرى، ولم أفهم لا السؤال أو الإجابة ولم أهتدِ حتى الآن إلى موطن المفارقة الداعية للسخرية.

بعد عدة أسابيع، جلست على مقربة من مشرف نشاط المسرح، أشاهد بروفة لمسرحية ما، وأسمع بقلق تعليقاته الساخرة الحادة، لا أذكر أنى لاحظت طفلًا آخر قد تأثر سلبًا مما يقوله. كان شابًا سخيفًا إلى حد لا يطيقه طفل مفرط الحساسية مثلى.

كانت بجوارى “كراسة” لها غلاف صممته بنفسى ليبرز اسمى واسم أول قصة كتبتها فى حياتى، يلاحظها معتز فيدور حوار بيننا، ملخصه أنَّ علىَّ كتابة قصة قصيرة كل أسبوع لكى أصبح كاتبًا إن أردت. منذ حينها وحتى اليوم، لم أفعل شيئًا من هذا بالطبع، ومع ذلك تستمر علاقتنا، حتى أنَّه ذات يوم استأمننى على مسودة أحد مشروعاته المبكرة.

كشكول قديم ومهترئ يضم مسودة مبكرة لكتاب الاحتراق عمدًا

الاحتراق عمدًا

قضى كشكول مهترئ يضم نصًا طويلًا بخط يد أشبه بنكش الفراخ سنوات على أرفف مكتبتى، أعيد قراءة بعض فصوله من آنٍ إلى آخر، قبل إعادته إلى صاحبه.

بعد وقت قليل من تخرُّجه قرر معتز البَدء فى مشروع كتاب عن الكتابة الإبداعية، وأسماه “الاحتراق عمدًا.. تأملات فى فن الكتابة”. لم تكن مسودات فصوله التى وصلتنى فى ذلك الكشكول المهترئ تأمُّلات فى صيغة مقالات وإنما حوار مسرحي ساخر بين شخصيتين تتعلم منهما الكثير عن فن الكتابة وعالمها الخاص.

وبينما ينشغل الناس هذه الأيام بتجنّب أنواع شتى من الاحتراق النفسى، يُعتبر معتز أن الاحتراق نفسيًا وجسديًا أمرًا حتميًا لا مفر منه، وأن الكاتب يختار أن يحترق بالكتابة ومن أجلها، عِـوضًا عن الاحتراق فى سبيل متطلبات الحياة اليوميّة أو الطموح المادى والوظيفى.

ليست هذه فكرة كتابه فحسب، وإنما فلسفة معتز فى الحياة، وأظنّه عَقَدَ اتفاقًا معها، فوضع كلاهما الآخر على هامشه.

وبَينما يقفز من ميكروباص إلى الشارع، أو ينحشر فى عربات المترو، أو يجلس على مكتبه يُعدِّلُ مئات الصور بالساعات، لا تشغله حسابات الحياة اليوميّة. وإنما يُجرى فى خياله حوارات محتدمة مع شخصياته، كما لو كان مضطربًا، ويرتّب معها أدوارها فى قصص وروايات يكتبها على هاتف لوحى كلما خلا إلى نفسه – وسط الناس – على كرسى الميكروباص، أو على القهوة، أو حتى جالسًا على الرصيف ينتظر موعدًا ما.

منذ عدة شهور وبإلحاح منى يعود معتز إلى مشروع “الاحتراق عمدًا” بعد ركنه له لربع قرن تقريبًا، يُعيد كتابة بعض فصوله، يُضيف إليها ويحذف منها، لكنَّه مصمم على اتباع الأسلوب ذاته، كتابة أعقد الأفكار على هيئة حوارٍ مسرحيٍّ ساخرٍ يدور بين عبقرىٍّ يعرف فنون الكتابة، وأحمقٍ ساخرٍ يسأل عمَّا لا يفهمه من أركان الكتابة.

إن مشروع معتز أكبر من كتابه، فهو متيّم بتعليم الكتابة، حتى لمَن لا يهتمون بها. استغرق فى عالم ورش الكتابة يُعلِّمُها مئات الأشخاص، لم يكن الكثير منهم – للأسف – من الموهوبين.

لا يرى معتز أن تعلّم فنون الكتابة حكرًا على المفكرين والأدباء، فالجميع يحتاج إلى الكتابة. لماذا؟ لأن بالكتابة يستطيع الإنسان أولًا التواصل مع نفسه، ثم يتعلّم بعدها تجاوز نفسه، وهذا شىء ضرورى للناس كلها.

ولعل لهذا السبب لم ينزعج يومًا من تفشّى ظاهرة الكتابة والنشر، فلا بأس من نشر مئات الآلاف من الأعمال الأدبية، فلن يبقى فى مجال الأدب إلا ما يحكم عليه الزمن بأنه جدير بالبقاء.

أشبه بسيرة ذاتية

تخرّج معتز صلاح سنة 1996 فى المعهد العالى للفنون المسرحية بدولة الكويت، متخصصًا فى النقد. جرّب العمل الصحفى لفترة وجيزة عرف خلالها أن مهنة أبيه لا تستهويه، فعاد إلى القاهرة وعمل مخرجًا مسرحيًا لفرقة الحديقة الثقافية للأطفال (حديقة الحوض المرصود بالسيدة زينب)، حيث تعرفت عليه هناك.

بالتوازى مع ذلك بدأ فى كتابة وإعداد نصوص مسرحية عرضتها عدة فرق مسرحية بمصر والكويت، واحترف فيما يبدو كتابة القصة القصيرة من أجل رَكْنِها فى الأدراج، إذ لم تعرف قصص مثل “زجاج كأنها سليمة” و”حول قتل” طريق النشر إلا فى مجموعة قصصية نشرها بعد ربع قرن من كتابتها.

وبعد إلحاح طويل، نشر معتز روايته الأولى سنة 2014، أى بعد كتابتها بخمسة عشر عامًا. لأسباب تجارية نُشرت تحت اسم طقس اختفاء، لكنه لا يتحدث عنها إلا بعنوانها الأصلى “نقاط”، وهى جزء من ثلاثيّة، كتبَ جزءَها الثانى (ولم ينشرها طبعًا)، ويعمل على إعادة كتابة جزئِها الثالث.

اشترك معتز فى كتابة رواية سلالم بوذية التى نُشرت فى 2019. ومعتز مهووس بالكتابة المشتركة، انخرط فى أكثر من تجربة مع أكثر من كاتب، لم تظهر أيٌ منها للنور إلا هذه الرواية للأسف.

جمع بعض قصصه التى كتبها فى فترات مختلفة من حياته فى مجموعة قصصية بعنوان هى وأخريات لينشرها بالتزامن مع معرض القاهرة الدولى للكتاب المقام مطلع عام 2023.

أشبه ببورتريه

يدخل معتز الكافيه الذى أجلس به يرتدى نظارة بلا إطار لا تُخفى بروز عينيه اللتين أشك فى أنَّهما ترمشان أبدًا. تتسع عيناه وتبرزان بشكل لافت كلما تحدّث عن الكتابة.

وبعكس نظارته التى لا يبدلها إلا بشبيهة لها، يرتدى معتز قبعات مختلفة فى كل مرة. تبدأ تشكيلة قبعاته من الكاب التقليدى بمظهره الشاب، وتمرُّ بأغطية الرأس الصوفية (الآيس كاب)، ولا تنتهى بالباريه الذى يفضله.

تحت غطاء رأسه يُخفى شعرًا غزيرًا وناعمًا لا يهتم بتصفيفه وكثيرًا ما يحلقه “زيرو”، ولا تظهر شيبته فى شعر رأسه بقدر ما تظهر فى ذقنه سواء تركها طويلة أو نابتة.

بشكل عام لا تظهر على وجهه سمات عمره إلا عندما يكون مرهقًا، وبعكس ذلك فهو دائمًا طفل يناهز عمر الخمسين.

لا يبدأ حديثه لا بالتحيات أو بأية مقدمات أخرى، فيجرى على لسانه منذ اللحظة لجلوسه معى ما أدّخره من أفكار عن مشاهداته وقراءاته طوال الفترة الماضية، يحكى بحماسة وبلا توقف.

عندما يحتاج إلى فاصل من الراحة يسألنى فيه “إيه أخبار الكتابة؟” فأتحدث قليلًا قبل أن تلتمع فكرة أخرى يتحدث فيها لساعة أو يزيد.

أشبه بلقاء صحفى

بنيّةٍ مُبيَّتة، أُدبِّر موعدًا يبدو عاديًا لمعتز، لأسأله عن بعض المعلومات التى تساعدنى فى كتابة تدوينتى التى لا يعلم عنها شيئًا. ألتقيه فى كافيه بالمعادى، وأحاول محاصرته بالأسئلة كلما هام على وجهه فى مجاهل خيالاته، يقفز من فكرة لأخرى كطفل لاهٍ دون تقديم إجابة كاملة. فى مسودات متتالية أوزع إجاباته على الفقرات، وأُبقى بعضًا منها لهذا القسم.

يضحك عندما يرى مجموعته القصصية على الطاولة، ويسألنى ساخرًا “أنت لسه بتقرأ للناس ديّه؟!” هذه عادته، بل مهارته الأساسية، التشويش بالسخرية على أيّة مشاعر تنتابه، حتى أنّه كتب تعليقات ساخرة فى ظهر غلاف مجموعته القصصيّة التى تتسم أغلب قصصها برهافة بالغة، سأعود لهذه الملاحظة بعد فقرتين.

أضحك بدورى، وأجدُها فرصة لأخبره أنَّنى توقعت أن تحمل مجموعته عنوان أحد أفضل قصصه وأقربها إلى نفسه مثل “قطع زجاج كأنها سليمة” أو “حول قتل”. لكنّه فضَّل أن يعنون مجموعته باسم لا يرد فى أىٍّ من القصص التى جمعها.

يعيد على مسامعى معاناته مع القصتين. ظلَّ معتز عالقًا فى “قطعة زجاج كأنها سليمة” التى كتبها سنة 1997، يظنُّ أنَّه لن يكتب مثلها، حتَّى كتب “حول قتل” بالتزامن مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، لا تحضره سنة كِتابتها بالضبط، لقد حذف كل تواريخ كتابة قصص المجموعة، لم يرد أنْ تُقرأ فى ضوء تواريخ كتابتها.

تنتهى الفقرتان وأعود لملاحظة السخرية؛ يطُلُّ الحسُّ الساخر برأسه فى قصة “هو وأنا”، يناكف طيف عابث شخصًا مهمومًا بلقمة العيش وبالكتابة، فتجده يكتُب “ألمح نفسى فى مرآة السائق، أضحك لنفسى بسخرية سريعة، ملامح الجدية تخنق عبثى سريعًا. كيف ستبدو فى أعين الناس، وهم يرون عابثًا فى الخمسين؟”.

أعرف، ربَّما وحدى، أنَّ هذا النص كُتب فى وقت قريب، بعكس نصوصه القديمة التى تغرق فى وصف المشهد العام حول الشخصيات حيث تنعكس مشاعرهم على الجو العام، لذلك فهى أقرب إلى الشعر لغة وأسلوبًا، أمَّا نصوصه الجديدة فتمزج الأصوات الداخليّة بالأصوات الخارجيّة، لدرجة أنـَّـك تشك فى تمييزك لها، فلا تعرف أيـًـا منها داخلى وأيـًـا منها خارجى.

يهتم معتز بتكثيف المعانى أكثر ما يشغله اختصار عدد الكلمات، يقضى وقتًا طويلًا فى اختيار الكلمات ليُشكِّل منها جُملًا موحية، يغزُلُها عُقدًا صغيرة يُمكن اعتبارها بيت شعر، يكتب كل جملة كما لو كانت قصة قصيرة مستقلة، ليضمَّها إلى نسيج كبير من القصص يحكى بها قصة أكبر ترهقك ملاحقة تفاصيلها الكثيرة، فبعضها مبعثرة.

يغامر معتز بخسارة القارئ السلبى، الذى يتوقع أن يمنحه الكاتب كل شىء بالملعقة على حد تعبيره. على قارئ نصوص معتز المشاركة فى رسم الخيوط الواصلة بين النقاط التى يبعثرها فى لعبة يلعبها اثنان، لعل هذا سبب تسمية روايته الأولى بهذا الاسم “نقاط”، فالشخصيات التى تبعثرها هموم متفرقة، يجمعها التفكير فى الموت، لن يدرك القارئ هذا قبل الصفحات الأخيرة.

أشبه بخاتمة

تنكسر حدة أشعة الشمس خارج الكافيه، فنقرر أن نتمشى. أذكر لمعتز قائمة ليست قصيرة من نصوصه أرى أنَّها تشترك فى أنَّها تُروى من زاوية أكثر الشخصيات جهلًا، أكثرهم براءة وغرابة، لعل أغلبهم من الأطفال أو مَن يعيشون كالأطفال، تستطيع أن تتذوق دهشة الرواى فى وصف أىِّ شىء.

فى هذه النصوص، يلتقط معتز أكثر المشاهد والظواهر بداهة ويقلِّبُها بكفى رضيع يحبو، يصرخ بها مرحًا وضيقًا، يتذوقها بلسانه ليعرف معنى الحلاوة والمرارة، ويختبر أبعادها بتقريبها إلى وجهه ثم إلقائها بعيدًا على الأرض.

وأسأله إن كان هناك سرٌ لاختياره بأن يختار زاوية الشخصية الأكثر جهلًا، فكَّر قليلًا وقال إن هناك إجابتين، الأولى أنَّ مَن يعلمُ كل شىء ليس لديه الحاجة ليرى ويروى كلَّ شىء مرة أخرى. أمَّا الإجابة الثانية فإنِّه لو أراد إخراج معتز من المعادلة، وكنَّا نتحدث عن كاتب آخر اختار – غير عامدٍ – الانحياز لدهشة الطفل، فإنَّ هذا الكاتب ربَّما لم يشبع من طفولته بعد.

مجلة الحائط


هل وصلتك النشرة عبر صديق؟ يمكنك التسجيل لتصلك فور صدورها عبر هذا الرابط

أما إذا كنت مشتركًا بالفعل، وقد أعجبتك هذه النشرة، فليس عليك إلا مشاركتها مع صديق بإرسالها إليه عبر البريد الإلكتروني، أو مشاركة رابط العدد، أو دعوته للتسجيل ضمن المشتركين عبر رابط صفحة التسجيل.

وأخيرًا، أدعوكم جميعًا إلى إرسال تعليقاتكم حول هذا العدد أو حول النشرة من أجل تحسينها وتطويرها، وربما المساهمة في محتواها، بالرد على هذه الرسالة، أو مراسلتي بالبريد الإلكتروني: [email protected]

عن مصطفى علي أبو مسلم

مصطفى علي أبو مسلم
صحفي ومدير إحصاءات واستراتيجيات الجمهور بمجموعة سبرنجر نيتشر