في العدد الثاني من نشرة “الرسائل” البريدية، اعتذار عن عدم استخدام الحياد اللغوي، وتلصص على يوميات الكاتب محمد عبد النبي، وخواطر حول معنى النصوص، وإن كان الكاتب يهتم حقًا بما يفهمه القارئ من نصه.
التحيات الطيبات
صديقي العزيز، قبل التحية، سأجد مناسبة أفضل الآن للتحدث معك عن ظاهرة “الحياد اللغوي” لأشرح لك موقفي منها، لكن يكفي أن أخيب آمالك الآن (إن كنت ممن يتبنون هذا الحياد أو يتوقعونه) لأنني لن ألتزم بهذا الحياد في هذه النشرة، وسأكتفي بأن أدعوك “صديقي”، لا صديقي/تي العزيز/ة.
أما بعد، هل صادفك، عزيزي الكاتب، عزيزتي المحررة، أن بدأت في كتابة فكرة، وبعد وقت طويل قضيته في البحث والكتابة، انتهيت إلى نص مختلف تمامًا عن تصورك المبدئي له؟
أظن هذه حالة شائعة، وشائع أيضًا أن تتجاذبك الأفكار والمعلومات الجديدة التي تكتشفها مع الوقت، فيرتبك قلمك، وتبهت فكرتك، وتغرق في دوامات من السرد، فتضطر يائسًا إلى ركن نصك لتبدأ في غيره، أو في أحسن الأحوال تسلمه متأخرًا عن موعده المُنتظر.. وهذا ما حدث.
عزيزي المشترك بهذه النشرة، هذا بمثابة اعتذار غير مباشر عن تأخري هذه المرة في إرسال عددها الثاني إليك، وإن لم أكن قد وعدتك بموعد بعينه، لكني افترضت أنك انتظرت عددًا جديدًا بداية هذا العام.
عزيزي القارئ، “ملحوقة”.. آسف على التأخير، وكل سنة وأنت طيب بمناسبة العام الجديد.
هل يهم المؤلف إعلان موته؟
مصطفى علي أبو مُسلم
في سنوات قراءتي المبكرة، أظن في المرحلة الإعدادية، شغلني البحث والسؤال عن التفسير الصحيح لما أقرأه، إذ كنت حينها – وأظنني مازلت حتى الآن بدرجة ما – أتشكك في أن ما فهمته ليس بالضرورة ما قصده الكاتب في نصه.
ليس هذا غريبًا على من درس بمناهج اللغة العربية بالمراحل الدراسية المختلفة، قسمًا يدعى بـ “المحفوظات”، وفيه يُلقن مواطن الجمال وراء النص، بالاستعانة بمعاني الكلمات والبلاغة وفقرات شرح النص، ولا بأس من هذا. لكن، كما هو حال جميع مناهجنا الدراسية، بقيت “الإجابة النموذجية” المُتلقاه أساسًا لتقييم استيعاب الطالب للنص، تطارد أية احتمالية لبناء حس نقدي خاص أو إحساس متفرد بالجمال، ويقمع أي فرصة للتفرد.
لعل هذا كان السبب في تشككي بما أفهمه من قراءاتي الحرة، لعل هناك أسباب أخرى.. من يعلم!
ودون أن أعي، تخلصت من متلازمة الإجابة النموذجية للأدب بمرور السنوات وبتعدد القراءات، ولم أدرك هذا التحول إلا عندما صادفتني مقولة “النص أذكى من كاتبه”، وقد تعذر عليّ ردها إلى مفكر أو كاتب بعينه، أثناء بحثي عن أصلها، ويسعدني لو أنك يا صديقي شاركتني بما تعرفه عنها في رسالة خاصة.
وتعني هذه المقولة أن النص قد يحمل معانٍ تفوق ما حمله الكاتب لنصه، ولن أستغرق في الذهاب إلى أدبيات موت المؤلف، حيث يُجرد الكاتب من سلطته على النص، وتُجنب قصديته من النص أثناء تأويله، لكني أشير إلى أن القارئ قد يلتقط عادة ما يعنيه، ويبقى في وجدانه ما يمسه في سياقات تجاربه الشخصية ومعارفه، بالإضافة إلى بيئته؛ زمانه ومكانه.
وفي هذا يمارس القارئ نوعًا من الشراكة المتجددة مع الكاتب كلما فسر ما يقرؤه في سياق معارفه الشخصية أو حتى ما يعرفه عن الكاتب.
قد يكون هذا القارئ ناقدًا متمرسًا أو أديبًا أو أكاديميًا يدرس ويدرّس الأدب، فيغوص في العمل الذي أمامه تأويلًا لكل وجه ممكن، وقد يكون قارئًا نهمًا أو هاويًا أو حتى وقع ذلك الكتاب في يده عرضًا وبدأ في تصفحه تزجية للوقت لا أكثر، فتكون تفسيراته يسيطة وأحيانًا سطحية، لكنهم جميعًا قد يؤولون ما كتب على أوجه لم يقصدها الكاتب، أو يتجاهلون ما ركز عليه الكاتب.
وتبدو لي هذه عملية عادلة، خاصة وأن الكاتب نفسه يمارس تأويله الشخصي على الحياة التي نعيشها كلنا، إذ لديه قدرة على تحويل هذه التأويلات، لا إلى آراء خاصة يحتفظ بها لنفسه أو يشاركها أصحابه على المقهى، وإنما إلى عمل مكتوب نقرأه، وهي شراكة متجددة شبيهة بتلك التي ينخرط فيها القارئ مع الكاتب، فيمارس فيها دورًا مهمًا في ترتيبات الحياة المفروضة علينا جميعًا من قبل قوى تسيرنا إلى أدوار ومسارات معينة.
فلا بأس من أن يؤول غيره تأويله على النحو الذي أراد، أو عكس ما رتب له.
وعندما جاء دوري في لعبة الكراسي الموسيقية، وجلست على مقعد الكاتب، وشاركت بعضًا من قصصي مع جمهوري (وهم فئة محدودة من دوائري الشخصية) وجدت أن القصدية عملية مربكة؛ فأنا تشغلني بعض الأفكار في الحياة أو في هذه المرحلة التي كتبت فيها النص، لكني لا أذكر أنني استخدمتُ الأحداث أو الحوار في النص لكي تنقلها أو تخدمها، بل أجدني، خصوصًا في مرحلة التداعي الحر، أكتب أشياءً لم أكن لأتصور أنها خطرت ببالي.
وهنا أعود إلى فكرة أن “النص أذكى من كاتبه”، إذ لدي تفسيرًا لا يخص الكتابة وحدها، وإنما عن الإرث البشري عامة، وهو أننا ككتاب وبشر عمومًا نعد موصلًا جيدًا للأفكار والمشاعر والسلوكيات، تنتقل عبرنا دون أن نخلقها بأنفسنا، لأنها تشكلنا دون أن نعي، وتستخدمنا لكي تنقل جينها الذكي من جيل إلى آخر، وتسافر من مكان إلى غيره عبر كلمات وصور وتعاملات يومية.
وستجد كل فكرة لم يقصدها الكاتب وعبرت من خلال كلماته، مَنْ يستقبلها على الطرف الآخر، وكان مستعدًا لتلقي هذه الفكرة من جده الأكبر، أو من نظير له في حضارة أخرى، أو من إنسان عابر تركت تجربته الإنسانية المُجهلة عبرة وعظة انتقلت عبر الأجيال، أو الأماكن التي يمرعليها القارئ بعينيه من قول بليغ ومجرد عن أصله المجهول، فمسته وبقيت معه تؤنسه.
لازلت أبحث عن المعاني خلف النصوص، وأقرأ تأويلاتها المختلفة، حتى تلك التي يُستنطق كُتّابها في الحوارات الصحفية، متقربًا بما أعرفه عن الكاتب ونصوصه الأخرى، إذ أن تجربته وقصديته لازلت مهمة، وأنا أعرف أن لدي نسختي من النص التي لا يساورني الشك فيما فهمته منها.
مجلة الحائط
نتلصص اليوم على الكاتب محمد عبد النبي، حيث نشر فقرة من يومياته على حساب فيسبوك، ويتحدث فيها عن كتابة اليوميات “سبحان الله”. وقد كلفني هذا الاقتباس معرفته بأنني لازلت أتلصص على حسابات الناس برغم هجري لعالم السوشيال ميديا منذ سنوات.
ترشيحات
يرشح لنا محمد عبد النبي قراءة مقال إنعام كجه جي “إدوارد سعيد والمُحرّر الأدبي” المنشور بجريدة الشرق الأوسط اللندنية نهاية الشهر الماضي.
من الواضح أنه ليس ترشيحًا حصريًا لقراء النشرة، إذ قد شارك عبد النبي نص المقال ذاته على صفحته على فيسبوك أيضًا – جلسة تلصص واحدة كانت كافية للاقتباس واكتشاف هذه المعلومة.
تستدعي الصحفية والروائية العراقية واقعة روتها رنا إدريس، مديرة دار الآداب، عن إدوارد سعيد، الذي حمل إليها نسخة كتابه «خارج المكان» بخط يده وعليها تصحيحات محرره بالخط الأحمر، ويوشك ألا يكون سطر واحد خاليًا منها؛ ومع ذلك كان يشعر المفكر الفلسطيني بالاطمئنان والفخر بجهد محرره.
وتشير كجه جي إلى أن العمل الأدبي الجيد في الغرب يأتي بشراكة الكاتب والمحرر الذي يأتي دوره مكملًا لدور الكاتب، بما يتمتع به من خبرة في اللغة وتركيب الجملة السليمة ولديه من الإبداع ما يمكنه من حذف واقتراح جمل وفصول.
عندما قرأت هذا المقال فكرت في اسم أو ثنين من دوائري أستطيع استئمانهم على روايتي الأولى، وأطمئن على أنهم يستطيعون إبداء آراءً واقتراحات مخلصة لا تحول عملي إلى منتج لا يخصني. فهل يمكنك تسمية اسم أو اثنين من دوائرك أو في الوسط الأدبي؟ ومن هما؟
كتاب العدد
موت المؤلف وآفاق التأويل
موسى ربابعة
أثناء إعدادي للتدوينة الرئيسية للنشرة، رشح لي معتز صلاح عدة مؤلفات، كان أغلبها لـ “رولان بارت” بالطبع، وأبحاث نقدية عن موضوع “موت المؤلف”، ومن ضمنها دراسة أعدها الدكتور موسى ربابعة، أستاذ الأدب والنقد، بعنوان “موت المؤلف وآفاق التأويل”.
استعرض ربابعة مقاربته التي سعت إلى تفنيد مقولة “موت المؤلف”، في أربعة محاور هي: سلطة المؤلف، وسلطة النص، وسلطة القارئ، وموت موت المؤلف، ويركز في عدة مواضع من بحثه على حقيقة أنه ليس هناك نص يُخلق من العدم، وبالتالي فإن لمؤلفه حقوقًا تمنحه الهيمنة على كلمته، وإعطاء الاعتبار لقصديته من نصه.
ويشير الباحث إلى أن المؤلف كان لزمن طويل محورًا لاستراتيجيات القراءة، فمنها ما اعتنى بسيرة المؤلف وظروف حياته وعصره، ومنها ما رسخ السياق التاريخي للنص، ومنها ما ركز على لاوعي صاحب النص.
ويفرق ربابعة بين تأويل النص وفهم مؤلفه، إذ قد يؤدي التركيز على دراسة المؤلف إلى إغفال سلطة النص فيصبح النص مجرد وسيلة لفهم صاحبه. وهنا يبدأ الباحث محوره الثاني “سلطة النص” حيث يشير إلى ظهور اتجاهات جديدة للنقد أزاحت المؤلف وألغت دوره، لإفساح المجال لـ “سلطة النص”، باعتباره محور العملية النقدية.
وقد أدى نفي المؤلف خارج لعبة القراءة، إلى أن على القارئ فهم النص من داخله، فتصبح القصدية هنا هي قصدية النص لا مؤلفه، حتى أتى رولان بارت للإعلان الرسمي عن “موت المؤلف” في 1968، إذ أزاح المؤلف ليحل محله الناقد الذي يحدد المعنى وينتج لغة خاصة به.
ويرجح ربابعة في المحور الثالث بعنوان “سلطة القارئ” أن موت المؤلف أدى إلى ولادة القارئ، إذ تحول القارئ في نقد “نظرية التلقي” من صاحب دور هامشي كمتلقٍ للنص إلى صاحب الدور الأساسي؛ فأصبح هو البديل الحقيقي للمؤلف، وبات صانعًا للنص ومعناه على حد سواء، ونتج عن هذا الاتجاه إلى ما يسمى بـ “انفلات المعنى”، إذ أصبح “للنص دلالات بعدد قرائه”.
ويعود الباحث في محوره الرابع والأخير “موت موت المؤلف” إلى وضع فكرة “موت المؤلف” في سياق فلسفة موت الإنسان وتدمير الذات، ويكرر أن النصوص لا يمكن أن تتولد من فراغ، وخلص إلى أن المؤلف لا يموت، وإنما أُخذ بثأره وأُعيد إلى عملية التأويل.
البحث منشور في عدد سبتمبر 2005 من مجلة علامات في النقد الصادرة عن النادي الأدبي الثقافي بجدة، وهو متاح للتحميل المجاني على بوابة المنظومة.
هل وصلتك النشرة عبر صديق؟ يمكنك التسجيل لتصلك فور صدورها عبر هذا الرابط.
أما إذ كنت مشتركًا بالفعل، وقد أعجبتك هذه النشرة، فليس عليك إلا مشاركتها مع صديق بإرسالها إليه عبر البريد الإلكتروني، أو مشاركة رابط العدد، أو دعوته للتسجيل ضمن المشتركين عبر رابط صفحة التسجيل.
وأخيرًا، أدعوكم جميعًا للتعليق على هذا العدد والنشرة من أجل تحسينها وتطويرها، وربما المشاركة بها، بالرد على هذه الرسالة، أو مراسلتي بالبريد الإلكتروني: [email protected]