– «ينفع أقول لك يا ماما؟»
– «لا يا حبيبتي. إنتِ عندك ماما واحدة بس.»
كانت تلك أختي الصغرى ذات الثلاثة أعوام، وقد أدركت أن أختها الكبيرة تقوم بما كانت تقوم به أمها؛ توقظها كل صباح مع من توقظه من إخوتها، تحملها إلى الحمام، تغسل لها وجهها ويديها، تمشط شعرها، تلبسها فساتينها الصغيرة الملونة، قبل أن تصرفها إلى الحضانة وتنصرف هي إلى المدرسة.
في المدرسة التي عدتُ للالتحاق بها بعد خمسة أعوام متواصلة من الدراسة في المنزل، كنت أحضر بجسدٍ كامل لا أعيه بشكل كامل، وبنصف عقل، بينما نصف عقلي الآخر في البيت، وفي إنكار ما حدث. طلب أبي مني ومن أخي الذي يصغرني بحوالي عام أن نكتم حزننا، ألا نبكي، ألا نتكلم عن أمنا، ألا نقول لأختينا الصغيرتين إنها ماتت، ألا نستخدم لفظة الموت في أي حديث كان، وبدلًا من ذلك، سنواصل القول إن ماما في المستشفى (الذي لم تصل إليه حية) وإنها ستعود عندما تُشفى. الحق أن حقيقة ما حدث لم تكن أوضح بالنسبة لي مما كانت بالنسبة للصغيرتين. أبي لم يقل: أمكِ ماتت. بل تركني لتخمين ذلك، ثم لترجيحه، ثم لاكتشاف ما يعنيه من الغياب والوحشة والتحلل والتلاشي.
لا أذكر كم مضى من الوقت منذ ليلة غيابها، وحتى صباح ذلك اليوم الذي غسَّلوها فيه، وكانوا يستعدون لدفنها؛ أي حمل جسدها الغائب المحجوب بالأكفان، وتغييبه أكثر بوضعه في التراب، في مقبرة يعلم الله أين تقع. طلب مني أبي الاستعداد للذهاب لرؤيتها قبل الدفن. حتى الآن لم يقل لي أحد صراحةً إنها ماتت. كيف يدفنونها قبل أن تموت؟ سألتُ أبي: «هل حقًّا انتهى الأمر؟»، كنتُ أنتظر أن يقول لي إن موتها غير مؤكد بعد، أو إن بوسع أحد ما إنقاذها وجعلها تتنفس من جديد، أو إن هناك خطأ في تقدير الوفاة ولم يفُت أوان تصحيحه. غير أن أبي لم يُجبني بشيء، وإنما هزَّ رأسه، وأخفى عني دمعة لم يذرفها.
هناك، كانت الغرفة بيضاء واسعة، معبأة برائحة المنظفات والعطور وبخار الماء، تتوسطها منضدة عليها شيء ما، صلب، الشيء مغلف بأغلفة بيضاء، والأغلفة تحيط بها عباءة سمراء خفيفة. لم يكن يكفي أن تُستر المرأة (أمي) بالأبيض، بل لزم أن يُختم على بياضها بالسواد، كما يُفعل بالنساء في هذا البلد، حيات وميتات. قالت لي صديقة العائلة الجديدة التي لم تكن تعرف أمي: «أزيحي الشاش عن وجهها، هل هذه هي؟» لم أجرؤ على إزاحته، وتحججتُ بأنه مشدود بإحكام، لكنني تأملتُ أبعاد الجسم، وقلتُ إنها هي، أنا أعرف أنها هي. هل كنتُ أعرف حقًّا؟ كيف وأنا لم أصدق بعد أنها ماتت؟
دخلتُ إلى البرزخ مثلما دخلته أمي. باتت الحياة حقيرة في عيني، أغطي جسدي لكنني أشعر أنه أقل شأنًا من أن يُغطى أو أن يُكشف، أصلي وأصوم لكن الله أصبح موجودًا على مسافة، لا تزيد ولا تنقص، كأنه في طريقه إلى أن يصبح محايدًا. أشعر بروحي تشيخ، وبوجهي لا يشبه أيًّا من وجوه أترابي الذين ما زلتُ لا أراهم. نعم، أنا الآن أرى عددًا أكبر من الناس، بحكم ذهابي إلى المدرسة، لكن انزوائي وانشغالي بهمي وبالاجتهاد في إخفائه، كل ذلك لا يترك لي فرصة حقيقية لإدراك ما حولي. يسقط شعري بإفراط، وأبالغ في قص ما يتبقى منه، فأمي ليست هنا لتنهاني عن قصه. أسمح لنفسي بالبكاء في الليل وحدي، حتى أظن أن نوبة من نوبات البكاء ستزهق روحي أنا الأخرى. أقعد للموت بالمرصاد، تحسبًا لعودته من أجل حصاد آخر، وأحاربه بيأس وبلا أسلحة. أمر على أبي وإخوتي وهم نيام، وأردد للموت: لا تأخذ أحدًا منهم، ليس الآن، ليس أبدًا. يبرد جسدي ويرتجف، ويدفئه ويسكِّنه ضمي لأختي الصغرى حتى تنام. أقول لنفسي إنها ابنتي، لكنني لستُ أمها. أمي فقط هي من تستحق أن تُدعى أمًّا، ولن أسمح لأحد بأن يسلبها حقها.
يتعلم جسدي كيف يحزن بصمت، وكيف يخاف، وكيف يفور بالقلق. كلُّ شيء يقلق: الاستيقاظ صباحًا، التجهز للمدرسة، الركض، تحضير نفسي لامتحاناتي، وتحضير إخوتي لامتحاناتهم، تدبير شؤون المنزل، والتنازع حولها مع إخوتي، انتظار عودة أبي في المساء، الخوف، الذعر، في كل مرة تتأخر فيها تلك العودة، التحايل على الحمى لتنسحب من جسد أخٍ أو أخت، التعامل مع العالم الخارجي باعتباري ربة المنزل، والمسؤولة عن أفراده الأصغر سنًّا. لم يكن القلق فكرة تأتي وتذهب، بل كان علة جسدية مزمنة، تتفاقم بمرور الوقت، أكاد أنكرها كما أنكر الموت، لكنها تسبب الألم وتضاعف ضربات القلب وتجعل كل خلية ترتجف.
اقرأ أيضًا:
- اكتشاف الجسد (1): ما قبل البلوغ
- اكتشاف الجسد (2): حديث العذرية والختان
- اكتشاف الجسد (3): جسدي المراهق
- اكتشاف الجسد (4): تفاعلات المراهقة
- اكتشاف الجسد (5): الزلزال الأول: موت الجسد
- اكتشاف الجسد (7): موت أكيد للجسد
- اكتشاف الجسد (8): حكاية أحمد ومنى
- اكتشاف الجسد (9): الجسد والموت والخيال
- اكتشاف الجسد (10): اكتشاف الصمت
- اكتشاف الجسد (11): الفن والجسد والجمال
- اكتشاف الجسد (12): تجربة عاطفية زائفة
- اكتشاف الجسد (13): الخروج من الحب الزائف