كانت أمي تملك شعرًا أسود طويلًا، غضبتْ مني مرة حين تركتْ لي مهمة تشذيب أطرافه، فقصصتُ منه أكثر مما يجب. كان أحد أسباب غضبها هو أن المرأة عندما تموت، يُضفّر شعرها عددًا من الضفائر، ضمن مراسم التغسيل الدينية، وكانت ترغب في أن تكون ضفائرها حينئذ طويلة، ربما لتستر جسدها في الآخرة، كما سترته في الدنيا.
قلتُ إنني لم أمتلك في نشأتي مرآة أرى فيها جسدي، حتى مع وقوفي لساعات طويلة أمام المرآة أصفف شعري أو أجرب أدوات الزينة البسيطة الخاصة بأمي. لم أمتلك مرآة، لكن أمي كانت مصدري الأول (والأوحد لفترة زمنية طويلة) لتكوين فكرتي عن الجسد. كانت مرآتي، دون أن تشعر أيّنا بذلك.
لا أذكر بالتحديد متى تحولت أمي من الغمز لي لأغادر المكان، لأنها تتكلم مع إحداهن في «كلام يخص الكبار»، إلى أن تعُدّني واحدة من الكبار، بل صديقتها الكبيرة المقربة، التي تحدّثها بأي شأن شاءت، وتفضي إليها بأسرارها. حفظت ملامحها، وتعبيراتها، وحركاتها. وجهها، ويديها، وقدميها، ومعالم كتلتها الجسدية، وأطوارها الأنثوية الأمومية. حفظت نوعية شعرها، وشكل منابته، والبقعة الصغيرة الخالية من الشعر، التي تتوسط رأسها تمامًا، وبتحسُّسها تعرف أن شعرها مفروق من منتصفه تمامًا. كنت أرى من خلال خفتها وتبسّمها والتماع عينيها، متى تحب كونها أنثى. كانت تحكي لي عن مراقبتها وهي صغيرة لأمها وهي تكتحل، وعن أن الأمر كان يثيرها ويضيء عينيها، وتفكر: كم أمي جميلة وهي مكحلة العينين! كنت أفعل معها كمثل فعلها مع أمها، وأفكر: وأنا أيضًا لديّ أمٌّ جميلة، حتى لو كانت معظم الوقت لا تدرك ذلك، ولا أنا أدركه، لأني تعلّمتُ أن أصدّقها. أمي ليست جميلة، لأنها تعتقد أنها ليست جميلة. وأنا مثلها. أنا لست جميلة، حتى لو أخبرتني أمي بالعكس.
ألتمس العذر للمراهِقة، حين أضع نفسي مكانها، وأمها تحكي لها — على سبيل الفكاهة — عن ابن أختها الذي كان يقول لها وأنا صغيرة: لا تقلقي يا خالتي «هتحلوّ لما تكبر». هل أفهم من الحكاية الطريفة أني لم أكن طفلة حلوة؟ أم أن أمي كانت تراني قبيحة واحتاجت من يصبّرها؟ أم أني «احلوّيت أخيرًا والحمد لله» أو سأحلو قريبّا حسب النبوءة؟ أم أن ابن خالتي خانه حدسه، والقبيح لن يتحوّل أبدًا إلى حسن؟
هل كانت أمي جميلة؟ أجل. أذكر كيف كانت تحكي عن الممرضات اللاتي أحطن بها وهي تعاني المخاض للمرة الرابعة، وأخذن يسألنها: هل هي طفلتك الأولى؟ تبدين صغيرة! وبالفعل، كان ثمة أنثى صغيرة داخلها ترقص طربًا، لأن نساءً غريباتٍ تمامًا يرينها أجمل من أمٍّ استنفد قواها وسرق منها جمالها، إنجابُها لثلاثة أطفال من قبل، على مدار الاثنتي عشرة سنة الماضية.
كنتُ طفلتها الكبرى التي تكبر وتحلو أمام عينيها، عانت من الاكتئاب خلال حملها بي، وبكت الليالي الطويلة وأنا رضيعة، لأنها لا تعرف كيف تهدئني وتعالج أسباب صراخي المتواصل. لكنها اليوم فخورة بي كمراهقة مؤدبة، متفوقة دراسيًّا وأخلاقيًّا ودينيًّا. لا أدري كم مرة أخبرتني بأنها تحبني بصيغة مباشرة، لكنني أذكر منها مرة وحيدة، لعلها كانت مدفوعة بتقديرها لصبري وما بذلته من جهد لمساعدتها بعد إنجابها أختي الصغرى. كانت تثمّن لي كل ما فعلتُه، وتطلب فوقه معروفًا إضافيًّا واحدًا: «لما أموت خلي بالك من اخواتك».
كانت خبرتي مع الموت آنذاك محدودة بلهجات الترغيب والترهيب والمواعظ الدينية، فضلًا عن معاينتي لفجيعة أمي بموت أمها. ما زلتُ أذكر انتحابها وتصبُّرها، وأحلامها المتكررة بأنها تُدفن بجوار أمها. كان حديثها المتكرر عن الموت يثير استغرابي: أيّ موت سيأخذها الآن؟ ما زالت شابة، ولا تعاني من مرض مستعصٍ، كما أنها تعيش بعيدة عن أهلها، ولا أحد يستطيع أن يكون أمًّا بديلة لأطفالها الأربعة. أنا؟ صحيح أنني بلغت ولم أعد طفلة، ولو أن حيضتي الأولى كانت أبكر قليلًا لأمكنني افتراضيًّا أن أنجب طفلًا في مثل سن أختي الصغرى، لكن، لا، لستُ مستعدة للأمومة بعد، ولا لاعتبار موت الأم أمرًا وارد الحدوث. أصلًا، أستبعد أن يفعل الله بها وبنا ذلك، ويميتها الآن.
لم يكن شيء يوقف أمي عن التفوه بالوصايا، وكنتُ أؤكد لها أنني سأنفذها لتطمئن. طمأنتها وطمأنت نفسي ذات ليلة، حين اشتد ألمٌ غامض بكاحلها وأسفر عن تورّمه. سهرتُ إلى جوارها الليل كله، أدلّك قدمها، وأقرأ عليها القرآن، وأدعو لها بكل أدعية الشفاء التي أعرفها. في الصباح، استجاب الله لنا، خفّ الألم، وتراجع الورم تدريجيًّا حتى اختفى. ألم أقل لكم؟ الله لن يفعل بها شرًّا.
في 25 يونيو 2001، تصوّر الكاميرا أمي، جالسة على كرسي في وسط غرفة فارغة، شبه غائبة عن الوعي، بعد شهقات عديمة الجدوى، رددت في أثنائها أنها تشعر بالاختناق. كانت أمي تختنق بين ذراعيّ، يُحدث مرور الهواء عبر شعبها الهوائية الضيقة، أزيزًا مؤلمًا يخفت بمرور الوقت، يبرد جسدها ويتحوّل لونه إلى الأزرق، والإسعاف الذين هرع أبي لطلبهم لم يصلوا بعد.
أفلتّ أمي من حضني بمجرد وصول فريق الإسعاف، وأخذتُ أشرح لهم حالتها وتاريخها مع حساسية الصدر، وتصوّرت أن مجرد وصولهم كان يعني إنقاذها. كان جسد أمي في تلك الساعة، في أكثر حالاته هشاشة ومادية وحقيقية. كان الاحتفاظ بأمي يعني القدرة على إبقاء جسدها متنفِّسًا وحيًّا. بالنسبة لي، كانت أمي المرأة التي منحتني الحياة منذ 14 عامًا، ولا ينبغي أن تموت الآن، وكانت بالنسبة للرجلين القاسيين اللذين أتيا لإسعافها، امرأة ترتدي ملابس المنزل، ولن نهبط بها إلى الشارع قبل أن نغطيها تمامًا، ونحجب جميع مفاتنها. أمي الآن ليست مفاتنها، إنها امرأة (زوجة وأم) من لحم ودم، تكافح لكي يدخل إلى رئتيها سرسوب هواء ضئيل يمنحها حياة إضافية. لكن المسعفَين لم يقدّما لها أي شيء يساعدها على التنفس، بل غطياها وسدَّا مسام جلدها بالعباءات والأغطية، وأخذاها في عربتهما، لتموت قبل أن يصلا بها إلى المستشفى.
القلب الذي قال لي قبل شهور إنه يحبني، توقف عن النبض، والجسد الذي لم أحسبه إلا مرتبطًا بالخصب والولادة، بالحركة والحياة، بسؤال الجمال والقبح، بممارسة الطاعات والصلوات، بالفتنة واتقاء الفتنة؛ الجسد المرآة، المصدر، الفاعل، المستقل بذاته، أصابه زلزال لم يخطر على بال. الجسد مات.
اقرأ أيضًا:
- اكتشاف الجسد (1): ما قبل البلوغ
- اكتشاف الجسد (2): حديث العذرية والختان
- اكتشاف الجسد (3): جسدي المراهق
- اكتشاف الجسد (4): تفاعلات المراهقة
- اكتشاف الجسد (6): حياة البرزخ الأولى
- اكتشاف الجسد (7): موت أكيد للجسد
- اكتشاف الجسد (8): حكاية أحمد ومنى
- اكتشاف الجسد (9): الجسد والموت والخيال
- اكتشاف الجسد (10): اكتشاف الصمت
- اكتشاف الجسد (11): الفن والجسد والجمال
- اكتشاف الجسد (12): تجربة عاطفية زائفة
- اكتشاف الجسد (13): الخروج من الحب الزائف