لم أكن قد حضت بعد، حين بدأت ابنة إحدى صديقات أمي تدعوني «خالتو». كانت البنت تصغرني بسنوات قليلة، لكن شيئًا في سلوكي وهيئتي وطريقتي في ارتداء الملابس، ربما، جعلها تنزلني منزلة الخالة، وتتعامل معي على هذا الأساس. وهي البنت نفسها التي خضت ضد أمي وأمها معركة محتدمة، بسبب أخيها الذي كان يكبرني بعام أو اثنين. كانت كتب الفقه التي أقرأها، والفتاوى التي أستمع إليها، تشيطن الأولاد بمجرد أن يبلغوا سن الثانية عشرة، وكان المتوقع مني أن أنفذ الأمر بالحرف الواحد. لن تدخل العائلة بيتنا ولن ندخل بيتهم، إلا وأنا محتجبة عن ابنهم الأكبر «الصغير»، وهو منذ أخبرنا وهو يلعب معنا أنه سيتم عامه الثاني عشر هذه الأيام، قد صار بالنسبة لي في حكم الرجل الذي لا يؤمن أن يفتتن بالنساء أو أن يفتتن به. لم يقف الأمر عند حد تغطيتي رأسي ثم وجهي عنه، بل امتد إلى لومي لأمي لأنها لا تفعل المثل، وسط اندهاش أمه، التي ربما سمعتها مرة توشوش أمي، وهي تعرب لها عن تعجبها من كآبتي، وتوصيها بأن ترقيني.
كنت قد تحدثت في مقالات سابقة عن العزلة الاجتماعية، وعن غياب النموذج من جهة، وغياب المرآة التي تريني نفسي (روحًا ومادة) من جهة أخرى، وما أستدعيه الآن من مشاهد، يظهر ارتباكات نتجت عن اختراقات قليلة متفرقة لتلك العزلة.
في أحد تلك الاختراقات، أراني صامتة متشحة بالأسود نفسه، أرافق أمي في زيارة لها لإحدى صديقاتها التي وضعت للتو مولودًا جديدًا، والتفت حولها النساء يباركن. كنت شاردة في شيء لا أذكره الآن، حين نظرت لي إحدى هؤلاء النسوة، وقالت: «عقبى لك»، نظرت لها باستغراب وأنا لا أفهم ما تتمناه لي بالتحديد. حيرتي الواضحة جعلت المرأة تستدرك سائلة: «أنتِ متزوجة يا حبيبتي؟» بالطبع لم يكن لابنة الثانية عشرة أن تتخيل أن «عقبى لك» تعني أمنية بالإنجاب، لكن، هل كان مظهرها يوحي بأنها أكبر من سنها بعشر سنوات على الأقل؟ وأي جزء بالضبط هو المسؤول عن هذا الإيحاء؟ ملامح الوجه، أم كتلة الجسم، أم الملابس، أم أنها لم تكن تحيا في جسدها الصغير حياة الأطفال؟
بعد هذه الحادثة ببضع سنوات، ستعلّق جارة على وزني ومشيتي، وتقول لي: «زوجي رآك من ظهرك ماشية ذات مرة، فقال لي إنك تبدين وكأنك امرأة متزوجة ومنجبة ولها من الأبناء كثيرين.» كنتُ وقتها في السادسة عشرة تقريبًا، وهذه المرة أيضًا لم أكن أعرف ما المطلوب مني بالضبط، ولا لماذا يسبب لهم جسدي كل هذه الأزمة؟ كنت محتارة فحسب.
كان الالتزام بحرفية الفتاوى الدينية يكفيني شر الحيرة، ويخرج الأمر من دائرة تعلقه بي؛ بصورتي وشكلي وطبيعتي، إلى دائرة التعلق بفقه المرأة، المرأة التي تفتن في الدنيا ويُكافأ بها في الآخرة الناجون من فتنتها، المرأة التي يجب عليها أن تفعل كذا وكذا، وأن تمتنع عن كذا وكذا، بحجة كذا وكذا، وجميعها حجج غير قابلة للطعن فيها. تجادلتُ مع أمي ذات مساء صيفي، وأنا أخبرها باعتزامي تغطية وجهي. كانت تخبرني بأنني ما زلت صغيرة، وغير مكلفة بهذا، حتى لو كان فرضًا، وأنه ما زال لديّ الوقت لأختار ذلك عن وعيٍ وأنا أكبر قليلًا، لكن عزيمتي لم تكن لتتزعزع أمام حجج أمي الكثيرة التي لا أذكرها كلها الآن.
بالحدة نفسها، كان استنكاري لسلوك جارتنا المستهترة التي تصبغ وجهها وشعرها (في بيتها) بأصباغ صارخة، وتمضغ العلكة، بل وتتفرج على القنوات الفضائية، بما فيها من عري وأغانٍ وفتن. أما جارتنا الأخرى التي كانت تعلن عن تذمرها من زوار يوم الخميس، إذ إنه على نحو بديهي، يوم مخصص للأزواج، ولا ينبغي أن يزعجهم فيه أحد، فقد كانت في رأيي وقحة وغير مفهومة أساسًا. هذه تخرج كاشفة يديها، وتلك قدميها، والثالثة تكشف بطنها الحامل أمام النساء والأطفال لتريهم آثار الحساسية التي أصابتها، بلا حياء، والأخرى ترفض تحجيب بناتها في مصر، لئلا تضيع فرصهن في الزواج، لكنها تضيّع دينهن ببساطة. أما صديقة أمي البدينة، التي كانت ترتدي بنطالًا ضيقًا تحت العباءة، وكشفت عنه ذات مرة حين دخلت لتساعد أمي في المطبخ، فحديثها عن أن زوجها يعجبه جسمها الممتلئ، كان مقززًا، وكان من الواجب عليها في نظري آنذاك أن تواري نقصها البيّن، وألّا توهم نفسها بأن ثمة رجلًا يحبه ويشتهيه.
اقرأ أيضًا:
- اكتشاف الجسد (1): ما قبل البلوغ
- اكتشاف الجسد (2): حديث العذرية والختان
- اكتشاف الجسد (3): جسدي المراهق
- اكتشاف الجسد (5): الزلزال الأول: موت الجسد
- اكتشاف الجسد (6): حياة البرزخ الأولى
- اكتشاف الجسد (7): موت أكيد للجسد
- اكتشاف الجسد (8): حكاية أحمد ومنى
- اكتشاف الجسد (9): الجسد والموت والخيال
- اكتشاف الجسد (10): اكتشاف الصمت
- اكتشاف الجسد (11): الفن والجسد والجمال
- اكتشاف الجسد (12): تجربة عاطفية زائفة
- اكتشاف الجسد (13): الخروج من الحب الزائف