«رحمي حي ويؤلمني
رحمي حي بطريقة مؤلمة»
هكذا أنهيت إحدى قصائدي التي نشرتها ضمن ديواني «مزاج القبلة» الصادر في 2016، الذي أردت له أن يبرز تجليات الأنثى التي بلغت ذروةً من ذُرى التعبير عن وعيها بنفسها وعن أبعد ما وصلت إليه قدماها في حيّزيّ الحقيقة والخيال، في تلك المرحلة من حياتي. صحيح أنني علمت مؤخرًا أن الرحم مؤنثة، وكان حريًّا بي أن أكتب «رحمي حية وتؤلمني …» لكنني لن أغير القصيدة التي أرادت أن تكتب نفسها على هذا النحو.
لم ينطق جسدي فجأة، فلطالما انتميت إلى البشر، والبشر كائنات مادية، تعيش في وعاء عضوي مكون من خلايا وأنسجة لها وظائف محددة، تنمو وتتنفس وتشعر، وتمنحنا ملامحنا المميزة التي تُعرّفنا ونتعامل مع بعضنا البعض ومع العالم من خلالها، يخفى منها ما يخفى ويظهر منها ما يظهر، لكنها بلا شك تحمل بصمة خاصة لم يخترها أحد منا، ولم يخترها له أحد، ما لم يكن قد مر بعملية من عمليات الهندسة الجينية.
من الطبيعي إذن أن يسعى الجسد كما العقل إلى التعبير عن نفسه من خلال الكتابة، بوصفها أداة للتواصل والتمكّن وإثبات الوجود والسعي إلى اكتشافه ومعالجته وحل معضلاته. عندما أكتب أني حزينة فأنا لا أتحدث عن شعور يطفو في الفراغ، ولكنني أحس به في جسدي، ويظهر في قسمات وجهي، ويؤثر على تفاعلي مع الحياة.
لطالما كانت الكتابة بالنسبة لي ممارسة من ممارسات الصدق والتحقق والبقاء على قيد الحياة. ولطالما كان جسدي يوافقني الرأي، بإيقاعه الخاص ربما، فرحلته في كتابة نفسه كانت تسير عبر السنوات، من السطحي إلى العميق إلى الأكثر عمقًا، ومن الحميميّ إلى الأكثر حميمية، وكان حريصًا وما زال على ألّا يخون حقيقته المادية وما وراء المادية.
انتقل جسدي من قصّ الأحلام التي هو فيها «جسد آخر/ مشغول بنفسه إلى الآخر» إلى النظر في المرآة وعدسات الكاميرا «رفعي ذراعيّ على رأسي/ شد للحزن إلى أعلى/ شق طريق فرعي للانتظار/ وسيلة لتجميل صدري في صوري العارية» إلى الحديث عن أحلامه الشبقية «في خروجي القادم/ من بين المياه المائجة/ سأرى رجلًا يراني/ سأعانق رجلًا يريد معانقتي/ سأبتلعُ عنقودَ رجلٍ/ يبتلع رأسَهُ الثقبُ الضيقُ/ بين فخذيَّ الثخينين» مارًّا بالشكوى من الألم «الشلل ليس مجازيًّا/ هذه المرة على الأقل/ فكتفي الأيسر منذ الأمس يقتلني/ يرفض الحركة/ ويرفض رقادي الطويل في الفراش/ ويرفض هواجسي التي تملأ رأسي المرتاح عليه/ ويرفض أن يشكو ما به» يدعنا نتلصص على لحظاته الخاصة «فراشي منذُ الأمس (منذُ أربعٍ وعشرينَ ساعةً على الأقل)/ يزدادُ سخونة/ ليسَ لأني ارتعشتُ فوقَهُ مرتين/ وليسَ لأنَّ حرائقي — برغمِ ذلكَ — لم تنطفئْ بعد/ وليسَ لأنَّ الجوَّ حارٌّ بطبيعته/ ولكنْ لأنَّ الفراشَ يُخيَّلُ إليهِ أنهُ يُحسنُ إليّ/ يشعلُ النيرانَ حولَ قلبي البارد/ لعلهُ ينشَطُ لاستقبالِ الحب» ثم ها هو يقطع الوعود للحبيب المنتظر «سأسمح لك بأن تبكي داخل صدري إلى الأبد/ وبأن تفرّق بين ساقيّ إلى الأبد/ وبأن تغتذي بلحمي/ حتى الشبع/ وبأن تغير رائحتي لتشبه رائحتك/ وساعة قلبي لتدق مع ساعة قلبك»، ويغذي الحوار بيني وبين آخر مُشتهى:
– ماذا ستكتبين عني؟
– ما زلت أكتب عنك منذ سنين
لا أحصيها
كنت أخلقك في خيالي
على مهل
والآن وقد اكتمل خلقك
لا أجدني أرغب في شيء رغبتي
في التشبع بك
الانغماس في حضنك
حد تخلل مسامي لمسامك
وذوبان عظامي في عظامك
قبلاتك تجدد الروح في روحي
لمساتك تعيد ابتداع جمالي
هزك لجسدي
يهز قلبي
ويعيده إلى حيث سكونه وأمنه
اختراقك لأحشائي
يمنحك حق النفاذ إلى علني وسري
لن أفلتك يا حبيبي
لا تفلتني يا حبيبي»
أمثلة لا تنتهي، كنت أتوقف عند الكثير منها لأكلم جسدي: هل أنت واثق من رغبتك في البوح بكل هذا القدر من الجسارة؟ هل تدرك ما تورطني فيه؟ أنا البنت التي تمشي داخل الحائط! ماذا سيقول الناس؟ هل سأضطر يومًا للتبرؤ من فضائحك؟ لكنه كان يكسب سجاله معي كل مرة، ينفي عن نفسه الفضائحية، يؤكد على أنه حقيقي فقط، شأنه شأن كل الأجساد إن هي تكلمت أو قررت أن تكتب نفسها. هو جسد طاهر ومؤدب، لا يخجل من إنسانيته، وآلامه وثوراته، ولذاته وشهواته، وأحلامه المؤجلة.
كنت أضع يدي على قلبي كلما ارتفع السقف، حتى وصلت إلى مدى بعيد من تقبّل طبيعتي. بدأت سلسلة اكتشاف الجسد وأنا أرتعد من الخوف ويقتلني التردد، لكن المقالات توالت دون أن أشعر، معززة ثقتي في نفسي، وثقتي في جسدي الذي بت أعرف جيدًا أنه يعي جيدًا ما يفعله، يكتشف نفسه بالكتابة عنها، ويؤكدها، ويطورها، ويحمي حدودها، فشجاعة البوح أثبتت لي أنها لا تكسر الحدود، بل تصنع حدودًا أكثر منطقية، تزيد مناعتي الشخصية مادية ومعنوية، وتضع الخوف والحذر في مكانهما الصحيح.
بالتأكيد تنتابني الشكوك أحيانًا، وأجد الدعم من جسدي أولًا، ثم من حدسي، ثم من إيثار أختي وصديقتي المقربة، ومن صديقتي القاصة الجميلة نهى الماجد، ومن صديقي الشاعر محمود الرفاعي، ومن أخريات وآخرين يلمسون الصدق والجمال فيما أكتب، ويتمنون لو استطاعوا محاكاته، تمامًا مثلما كنت أقرأ قبلًا وما زلت أقرأ لكاتبات رائعات، أرخين لأنوثتهن وجمالهن العنان، تخلين عن الكتابة السقيمة المعلّبة، بما فيها من ألوان صناعية زائفة، وأغدقن على البشرية من طزاجة شعرهن ومشاعرهن وحقيقية وجودهن.
لا أستطيع أن أغفل عن ذكر الكاتبة اللبنانية الرهيفة ماري القصيفي، التي تحب الكلمات وتحبها الكلمات، وتزدان ممارسات الحب بحديثها الشغوف عنها. ولا أنسى صديقتي الفنانة الشاعرة غادة خليفة، التي حضرت معها ورشة من أمتع ما يكون، عن كتابة الجسد، وتعلمت منها كيف أتصل بنفسي مادة وروحًا من خلال الكتابة.
الكتابة التي كتبها جسدي الشاعر، واكبت نموي العاطفي والجنسي، وعلمتني ما أعلمه عن جسدي، كسّرت هذا التابو الذي تهابه الأغلبية، وكان ذلك في مرحلة ما شجاعة، ثم انتقل إلى منزلة الضرورة، ثم مضى نحو كونه ضوءًا ينير لي طريقي، وأرجو أن ينير الطريق لأخريات وآخرين.
اقرأ أيضًا:
اكتشاف الجسد (1): ما قبل البلوغ
اكتشاف الجسد (2): حديث العذرية والختان
اكتشاف الجسد (3): جسدي المراهق
اكتشاف الجسد (4): تفاعلات المراهقة
اكتشاف الجسد (5): الزلزال الأول: موت الجسد
اكتشاف الجسد (6): حياة البرزخ الأولى
اكتشاف الجسد (7): موت أكيد للجسد
اكتشاف الجسد (8): حكاية أحمد ومنى
اكتشاف الجسد (9): الجسد والموت والخيال
اكتشاف الجسد (10): اكتشاف الصمت
اكتشاف الجسد (11): الفن والجسد والجمال
اكتشاف الجسد (12): تجربة عاطفية زائفة
اكتشاف الجسد (13): الخروج من الحب الزائف
اكتشاف الجسد (14): اختلاط الصداقة بالحب
اكتشاف الجسد (15): من النقاب إلى الحجاب إلى خلعه
اكتشاف الجسد (16): حكاية الفتى الحلم
اكتشاف الجسد (17): الصحيان من الحلم
اكتشاف الجسد (18): العين لا تعشق كل جميل
اكتشاف الجسد (19): اقتلني ولا تجعلني أمًّا
اكتشاف الجسد (20): الجنسانية كشيء يُكتشف
اكتشاف الجسد (21): الجنسانية كحالة فضولية
اكتشاف الجسد (21): الجنسانية كحالة فضولية
اكتشاف الجسد (23): أمي وابنتي وحب حياتي