
«هي ابنتي الأولى، هي أمّةٌ من المواليد مغمّسين في غبار النجوم، هي نجمي. الطفلة التي كنتُ ألعبُ معها لُعبة «أنا في رأسك، معكِ أينما تكونين» وتصدقني، تلك الطفلة، كانت تنظر في عيني بالأمس تحاول تصديقي وأنا أبوح لها: لستُ في رأسكِ يا صغيرتي، لستُ معكِ أينما تكونين. لو كان لي أن أعيش يومًا في جسد أحدٍ غيري، ليوم واحد فقط، لاخترتك، لأرى وأفهم. قد لا أرى، قد لا أفهم، لكنني كنتُ هنا، أنا هنا الآن، وأريد أن أكون هنا، أحمي ظهركِ للأبد.»
أحد أكثر أعماري دقة يبدأ من بداية عُمرها، وُلدتْ/وُلدتُ في الثاني والعشرين من سبتمبر عام 1998. إيثار. اسمها إيثار.
ما زلت أذكر ظهيرة ذلك اليوم، حينما فاجأ أمي المخاض ونحن جلوس جميعًا حول مائدة الغداء نتناول طبقًا من اللوبيا الشهية. بكيتُ حين أصرّت عليّ أمي أن أبقى في البيت مع أخي وأختي، واستصحبت صديقتها إلى المستشفى، بينما أردتُ بشدة أن أصحبها أنا في تلك الرحلة.
في المساء، أتت إيثار.
كانت الطفلة الجميلة الذكية الطيبة تنمو سريعًا. بيدها اليسرى أمسكت بالقلم في سن مبكرة، كتبت ورسمت، وكانت في كل مرحلة من مراحل نموها تسبق بخيالها ودقة قلمها ورشاقته وحساسيته، كل من في سنها، بل وحتى من يكبرونها سنًّا. مشاعرها أيضًا كانت تنضج، تشعر وتستشعر ما ومَن حولها بعمق ونبل ورقة وجمال، مع كل ما في الفهم وعمق الشعور من ألم. رافقت والديّ في رحلة الحج إلى مكة وهي في الثانية من عمرها، وهناك وقفت في صحن الحرم المكي ترجو أبي أن يحضر لها أوراقًا وعلبة ألوان، فخرج يبحث عن مكتبات محيطة بالحرم ليلبي طبها وتستطيع أن ترسم رسمتها الجديدة. الفنانة لا بد أن ترسم الآن، وسط الجموع الغفيرة.
ما زلت أذكر دوري في المناوبات الليلية التي شارك فيها كل أفراد الأسرة، للمساعدة في تمرير عملية فطامها بسلام. كنت أحملها وأدور بها في صحن البيت دورات متكررة، بينما لا يبدد ظلام المكان سوى شعاع ضوء آت من المطبخ، وصوت بكائها يخفت رويدًا رويدًا إلى أن تسقط في النوم وهي في حضني.
حينما بلغت إيثار سنتين وتسعة أشهر، بدأ فصل جديد من علاقتي بها، أكثر خصوصية واقترابًا. ماتت أمنا، وكان مطلوبًا مني ومن أبي أن نسد بعضًا من الفراغ الهائل في حياة الطفلة وكيانها. هل فعلنا؟ هل فعلتُ أنا؟ على الأغلب لم يكن لأحد مهما فعل أن يعوض ما فقدته الطفلة الحساسة، المتطلبة، لا لشيء إلا لأن هذه المشاعر والمواهب التي تعبر عنها، تحتاج الكثير من الرعاية لتخرج بهذا الشكل دون أن تستنزفها وتزيد شعورها بالوحدة والاحتياج.
بينما كنتُ أتبع منهج أبي في تجاهل المأساة وإنكارها، كانت إيثار الصغيرة واعية، أكثر وعيًا بما يجري وبما خلَّفه الفقد ويخلّفه كل يوم. ربما هي لا تذكر اليوم احتضان أبي لها في الليل، ولا ضمي الشديد لها في ألمها ومرضها. لا تذكر استيقاظي صباحًا لأجهزها للحضانة قبل تجهيزي نفسي للمدرسة، وتأخري المتكرر عن طابور الصباح نتيجة لذلك، ومن ثم خضوعي للعقاب، لأنني أمّ بديلة في عمر الخامسة عشرة. كنتُ أمها رُغمًا عني، قبل أن أختارها؛ أختار إيثار مرارًا وتكرارًا بمحض إرادتي وحبي، وتختارني هي أمًّا وابنة وحبيبة.
كانت إيثار تنمو رغم كل شيء، وكنتُ أنمو معها. كانت وما زالت جزءًا لا يتجزأ من صلتي بنفسي وإدراكي لها. سبقتني أحيانًا، وسرتُ بمحاذاتها أحيانًا، علّمتها وعلّمتني، توافقنا واختلفنا، لكن ظل الفهم والتفهّم والدعم قائمًا ومبهرًا. يبدو لي أحيانًا من زاوية ما، أني أعدتُ عيش مراحل من حياتي معها ومن خلالها. لم أحظ مثلًا بمراهقة طبيعية، وعُدتُ في سن أكبر لأعيشها مع أختي، صديقتي التي لم أعُد أراها صغيرة. ضايقها ذلك في بادئ الأمر. هي ليست صغيرة، لكنها تحتاج ما يحتاج الصغار من عناية، ونقلي إياها إلى منزلة الصديقة يضرها ويحرمها من جزء من حقها عليّ. ربما ظلمتها، لا يمكنني الجزم، لكنني أعرف اليوم أني لم أتوقف عن اعتبارها ابنتي وحبيبتي، قولًا وفعلًا وحقيقة ثابتة.
في 2011 نُشرت لإيثار مجموعتها القصصية الأولى «حواس مستعارة». طفلة في الحادية عشرة من عمرها تُنجز عملًا أدبيًّا وفنيًّا جذابًا فائق الروعة، يفيض بالمشاعر الإنسانية المضفّرة مع خيال وأحلام الصغيرة، يثير إعجاب كل من يتناول الكتاب أو يستمع إليها وهي تقرأ منه، حتى يظن أن في الأمر خدعة. لكنني كنت شاهدة على تلك الخدعة التي استغرق إتمامها شهورًا من التأليف والرسم والاعتناء بالتفاصيل. إيثار فعلت ذلك. ساعدتُها وشجعتُها نعم، لكنها وحدها من فعلت ذلك، وكنتُ أنا مُعجًبة وفخورة إلى أبعد حد: «زي أول مرة مسكِت فيها القلم وشخبطِت، زي أول مرة دخلِت المدرسة، زي أول مرة نجحِت، وأول مرة الدنيا سقفِت لها. زي كل مرة، إيثار (بنتي) بتديني إحساس خالص بالسعادة، ببقى كلي ببتسم وببصلها، وهي تقول لي: بتبصيلي كده ليه؟»
في 2013 حكيت لصديقة: «من يومين كنت ببصّ في عينيها واحنا بنرغي، وبعدين قلت: عارفة إني عمري ما بصّيت في عينين حد غيرك يا إيثار؟»
وكتبت في 2016 في إحدى رسائلي: «إيثار هي حبيبتي، أختي الصغيرة التي كبرت معي وكبرت معها، وتعلمت منها الكثير، ويزعجني أحيانًا شعوري بأنها تفهمني بصورة مرعبة، وبأنها أكبر مني فكريًّا وعاطفيًّا، لكن محبتها لا تقدر بثمن، ولا أحد يعرفني كما تعرفني هي وتفهمني.»
وفي سياق تدوينة في 2018 عن «مفاتيح حياتي»، كتبت: «لازم أقول إيثار دايمًا، وحتى بعد ما بقى بيني وبينها خلافات أيدلوجية عميقة، إيثار كانت وما زالت خيط بيربطني بنفسي وحقيقتي اللي أنا عليها واللي عايزة أكونها. إيثار خلتني أفكر وأحس وأحضن وأحاول أفهم وأتقبّل وأحب وأبقى شخص بيحاول يكون حقيقي وطيّب. إيثار ربّتني وساعدتني على التعامل مع نفسي ومع الحياة، بالقدر نفسه (إن لم يكن أكبر أحيانًا) اللي بيه أنا ربيتها وحاولت أدعمها وأفضل منحازة ليها.»
إحدى عشرة سنة وسبعة أشهر، هي فارق العمر النظري بيني وبين إيثار، لكنه لم يحُل دون أن تكون ابنتي وصديقتي، بل وأمي وقرينتي وحب حياتي، والمقياس الذي أقيس به قوة الحب ومدى ارتباط إنسان بإنسان.
اقرأ أيضًا:
اكتشاف الجسد (1): ما قبل البلوغ
اكتشاف الجسد (2): حديث العذرية والختان
اكتشاف الجسد (3): جسدي المراهق
اكتشاف الجسد (4): تفاعلات المراهقة
اكتشاف الجسد (5): الزلزال الأول: موت الجسد
اكتشاف الجسد (6): حياة البرزخ الأولى
اكتشاف الجسد (7): موت أكيد للجسد
اكتشاف الجسد (8): حكاية أحمد ومنى
اكتشاف الجسد (9): الجسد والموت والخيال
اكتشاف الجسد (10): اكتشاف الصمت
اكتشاف الجسد (11): الفن والجسد والجمال
اكتشاف الجسد (12): تجربة عاطفية زائفة
اكتشاف الجسد (13): الخروج من الحب الزائف
اكتشاف الجسد (14): اختلاط الصداقة بالحب
اكتشاف الجسد (15): من النقاب إلى الحجاب إلى خلعه
اكتشاف الجسد (16): حكاية الفتى الحلم
اكتشاف الجسد (17): الصحيان من الحلم
اكتشاف الجسد (18): العين لا تعشق كل جميل
اكتشاف الجسد (19): اقتلني ولا تجعلني أمًّا
اكتشاف الجسد (20): الجنسانية كشيء يُكتشف
اكتشاف الجسد (21): الجنسانية كحالة فضولية
اكتشاف الجسد (22): قلبي ومفتاحه