اكتشاف الجسد (21): الجنسانية كحالة فضولية

«إذا كنتِ لا تحبين الموسيقى وليس لكِ صاحب تعاشرينه، فكيف إذن تستمتعين بحياتك؟»

كان دال زميلًا قديمًا، أرسل لي طلب صداقة في سبتمبر 2016 تقريبًا، وأخذت المحادثات الطويلة تروح وتجيء بيننا. عرف دال، بتواطؤ مني، كيف يتلمس اهتماماتنا المشتركة، ويفتح موضوعات حوار شيقة، يندر أن ينفتح على التناقش فيها شخصان من جنسين مختلفين أو حتى من الجنس نفسه. لنتذكر أنني كنت بالفعل في مرحلة البحث والقراءة النهمة، وكان من الجيد أن أشارك بعضًا مما أقرأه عن الجنسانية والعلاقات والتابوهات الاجتماعية مع شخص آخر، وأستقبل مشاركاته، دون التورط في أحاديث شخصية.

وهكذا كانت علاقتنا، ليست صداقة تمامًا، ولا تنحو نحو علاقة رجل بامرأة تمامًا، وليست معرفة تقليدية تمامًا. التقينا بضع مرات، وكانت تلك اللقاءات تكشف جوانب شخصية في كل منا، لكن في إطار عام من مواصلة تبادل الأفكار، والتحدث عن الرجال والنساء والمجتمع، وتأففه من النسوية المصرية المعاصرة، وتأففي من مقارباته التنميطية، ومعاناتنا كأفراد خارجين عن القطيع، وتصوّر كل منا للتحرر.

اكتشفت عبر حواراتي مع دال، المزيد عن نفسي، وتبلورت العديد من أفكاري ومواقفي، ورأيت منظورًا آخر للأمور، اتفقت معه واختلفت ووقفت على الحياد، وبقيت أسئلة ليست بالقليلة بلا إجابات. كان دال يبدي اهتمامه بي، إلا أني ميزت جيدًا أنه ليس اهتمامًا عاطفيًّا ولا جنسيًّا، رغم التوتر الذي كان يحدثه برميه كلمة أو سؤالًا بين حين وآخر.

قال لي مرة إنه مهتم باستكشاف جانبي الأنثوي، وسألني عما أبحث عنه في علاقتي بالرجل، وعن الحدود التي أضعها لنفسي. كان ينصحني بأن أفتح نوافذي، ويقول إن لديّ ما هو كفيل بأن يصطف العشاق على بابي (وإن كنت لا أدري بم سيفيدني اصطفافهم). أما أنا فكان ثمة شيء ما يمنعني من أن أفتح له قلبي وأجيب عن تساؤلاته الفضولية بأريحية.

كانت عبارته التي صدّرت بها هذا المقال، هي القشة التي قصمت ظهر البعير. ليس لأنها هازئة ومقتحمة لحدودي الشخصية فقط، ولكن لأنه لم يكن يعرف ما يتحدث عنه، ولم يكن يعرف شيئًا عن أزماتي وحيرتي الشخصية بشأن جنسانيتي وما أريد أن أفعله في حياتي. لم يكن يعرف أيَّ جرح ينكأ. ثم من قال إن امتلاك حياة جنسية هو فقط ما يجعل المرأة سعيدة ومستمتعة بحياتها؟ ومن أنت لتسألني عن ذلك؟ Block.

حدث ذلك في أبريل 2017، وهو الوقت نفسه الذي شهد بدايات نقطة تحول كبيرة في حياتي، سأفرد لها مقالي التالي. انقطع تواصلي مع دال، وقال لي إنه مرحّب بالتواصل معي عبر أي قناة أخرى وقتما أحببت ذلك. وأتى الوقت بالفعل سريعًا بعد شهرين، حين أرسل لي يهنئني على نجاح فعالية أقمتها في أواخر مايو، فرددت عليه شاكرة. ومن حيث لا أدري، راودتني بعد أيام رغبة ملحّة في أن ألتقي به، نتغدى معًا ونتمشى ونتكلم.

لم يكن دال نوعي المفضل من الرجال. كان غامضًا من زاوية ما، صريحًا ومباشرًا من زاوية ما، يبدو في منطقة بين الانفتاح والتحفظ، مهووس بحماية مساحته الشخصية ولا يبوح بأسراره لأحد، لا أخاف منه، لكنني أيضًا لا أطمئن له. حين اقترح عليّ أن نخرج معًا ليلة رأس السنة، فرحت، ابتعت الفستان الأحمر الذي كان يغازلني منذ أيام في واجهة المحل القريب من عملي، ثم اعتذرت له عن عدم رغبتي في الخروج، لأني (ويا لصراحتي) لا أثق به كفاية لأذهب معه إلى حيث يقترح عليّ الذهاب.

شيء ما غيّر المشهد حين التقينا بطلب مني في يونيو. كنت أكثر انفتاحًا على نفسي وعلى مجاراة حدسي، وكنت على الأغلب أشعر بفراغ عاطفي ليس جديدًا عليّ، لكن الجديد هو أني أرغب في التعامل معه واختبار سبل التغلب عليه. قال لي دال إن انقطاع رسائلنا صنع فراغًا لديه، ورمى لي وجهًا لوجه هذه المرة سؤالًا شخصيًّا آخر، امتنعت عن الإجابة عنه.

كان دال يفعل ما يفعله دائمًا، يتكلم بملامح محايدة، يطرح آراءه ويناقش آرائي، يسأل ويجيب، يراعي الحدود، لكنه أيضًا يختبرها، حتى إنك تشعر معه أنك قد تحولت إلى مادة استطلاعية، من عشرات عشرات المواد التي يستطلعها، غير أننا بشر ولسنا مواد، ولدينا ذوات فريدة ومشاعر، والكيمياء تلعب دورها في انجذاب أحدنا للآخر، على أي مستوى كان ذلك الانجذاب.

الساعات التي قضيتها مع دال في ذلك المساء، أشعرتني للمرة الأولى بنوع من الانجذاب له. ربما لأنه كان يبدو واثقًا أكثر ومنفتحًا على التعبير عن نفسه. ربما لأنه كان لطيفًا معي رغم حجبي له في الشهرين الماضيين. والأهم، ربما لأنه حرص على أن يوصل لي رسالة واضحة. الرسالة كانت أنه «مرحب بجميع الاحتمالات». وكأنه يقول لي: إذا أردتِ مني أن أكون صديقًا فسأكون، وإذا أردتِ شيئًا آخر فسأكون الشيء الآخر، أيًّا ما كان.

كان تخييره المتواري مغريًا ومزعجًا في الوقت نفسه. إذا كنت أريد التجريب والاختبار، فها هو الرجل يعرض عليّ أن يكون حقلًا لتجاربي. وإذا كنت أريد بهجة أن يُعجب بي أحدهم وأُعجب به، ويكون أحدنا شغوفًا بمعرفة الآخر والتواصل معه على مستوى حميمي، فأنا مخطئة في العنوان. ثم إن هذا التخيير لا يرضي غروري الأنثوي، ولا يشعرني بقيمتي، بالأحرى هو يشعرني بالبؤس، بؤسي الذي يصل إلى درجة أن أجرب من أجل التجريب، وبؤسه إلى درجة أنه يُلقي الطعوم في الماء ولا يهمه أي سمكة سيصطاد.

قبل أن أقرر مقاطعة دال، وقد ظل تواصلنا متقطعًا لشهور تالية، كنت أحكي له عن علاقتي العاطفية التي فشلت حديثًا، أو التي انتهت قبل أن تبدأ. قلت له إن أحدنا لم يقل للآخر إنه يحبه. قال لي إنه يكون حبًّا ولو لم نقل الكلمة. ثم تفتق ذهنه عن الحل دون أن أسأله عنه: «إما أن تنتظري ليلتئم قلبك وتقعي في الحب مرة أخرى، وإما أن تحصلي على بعض اللهو!» وهو مرة أخرى، وبصورة أوضح يستكشف إمكانية أن أحبه أو ألهو معه. ولكن ما هكذا تورد الإبل يا عزيزي!

اعتراني الفضول في آخر محادثة بيننا لأسأله عما يبحث عنه هو في المرأة، ربما لأستكشف جانبه الذكوري «مرة من نفسي»، فأجابني مستعينًا بعبارة رائجة تقول: «كلهن لديهن أعضاء أنثوية، فابحث عمن لديها العقل.»

اقرأ أيضًا:

اكتشاف الجسد (1): ما قبل البلوغ
اكتشاف الجسد (2): حديث العذرية والختان
اكتشاف الجسد (3): جسدي المراهق
اكتشاف الجسد (4): تفاعلات المراهقة
اكتشاف الجسد (5): الزلزال الأول: موت الجسد
اكتشاف الجسد (6): حياة البرزخ الأولى
اكتشاف الجسد (7): موت أكيد للجسد
اكتشاف الجسد (8): حكاية أحمد ومنى
اكتشاف الجسد (9): الجسد والموت والخيال
اكتشاف الجسد (10): اكتشاف الصمت
اكتشاف الجسد (11): الفن والجسد والجمال
اكتشاف الجسد (12): تجربة عاطفية زائفة
اكتشاف الجسد (13): الخروج من الحب الزائف
اكتشاف الجسد (14): اختلاط الصداقة بالحب
اكتشاف الجسد (15): من النقاب إلى الحجاب إلى خلعه
اكتشاف الجسد (16): حكاية الفتى الحلم
اكتشاف الجسد (17): الصحيان من الحلم
اكتشاف الجسد (18): العين لا تعشق كل جميل
اكتشاف الجسد (19): اقتلني ولا تجعلني أمًّا
اكتشاف الجسد (20): الجنسانية كشيء يُكتشف

عن لبنى أحمد نور

لبنى أحمد نور