اكتشاف الجسد (20): الجنسانية كشيء يُكتشف

ما علاقتُكِ بالجنسِ الآخر؟
يسألني طبيبي
أنوِّعُ الإجاباتِ كلَّ مرة
وأنسى أن أسألَه:
أيُّ جنسٍ آخر؟

من قصيدة «لماذا لم يقتل الفضول القطة حتى الآن؟»، من ديواني «مزاج القبلة».

كنت أراجع طبيبًا نفسيًّا في عام 2016، وكلفني في إحدى الجلسات بالإجابة عن عدد من الأسئلة، منها سؤال يقول: ما الذي عرفته عن نفسك من خلال علاقتك بالجنس الآخر؟ ذيَّلت إجابتي بثلاث من قصائدي، تصف يأسي وجهلي بالجنس الآخر وانحصار تعاملي معه في منطقة الخيال. قلت للطبيب: عرفت عن نفسي من خلال علاقتي بالجنس الآخر أنني غير مرئية. وأضفت: لا أعرف ما تقوم به البنات (الجميلات وغير الجميلات) ليعتقد الرجال أنهن جميلات أو مثيرات أو صالحات للحب أو للزواج. ثم حدثته عن المرات القليلة التي نعتني فيها أحدهم بالجميلة أو أشعرني بذلك. حكيت له عن خبرتي مع المعاكسات، وأني نادرًا ما تعرضت لها، لكن مجموعة من الشباب مروا بي منذ مدة قصيرة، وقال لي أحدهم: «انتي بقى اللي يعاكسك يكسب فيكي ثواب.» قلت للطبيب إني لا أريد معاكسات من أحد، لكنني أرغب في أن أُرى من شخص واحد، وأُحَب. لكنني كنتُ متشككة في صلاحيتي للحب، وأفكر في احتمالية أني لم أُخلق له.

كنت أقترب من عامي الثلاثين، لكنني لا أملك تصورًا واقعيًّا متماسكًا عن نفسي ككائن جنسي. علاقتي بجسدي تتطور نعم، وأمتع ذاتي، لكنني أتيه خارج هذه المساحة الخاصة للغاية ولا أعود أعرف نفسي. هل أشعر بما أشعر به؟ هل أرغب في الجنس الآخر؟ في أي جنس على الإطلاق؟ هل أنا مستعدة للاقتراب عاطفيًّا أو جنسيًّا من أحدهم؟ كيف يراني من حولي؟ هل أنا جذابة؟ ما الذي سيرغّب أحدًا في صحبتي؟ ما الذي أريده من الصحبة؟ ما هي تفضيلاتي؟ كيف أعرف وأنا لم أجرب؟ لم أعرف كيف أثق في خيالي، وأنا الشاعرة التي تضيع عندها الحدود بين الواقع والخيال، تكتب عن الحب والشهوة، من موقع من لا يعرف ما يكتب عنه، مثلها مثل كاتب خيال علمي ينسج رواية مستقبلية تحدث بعد ألف عام. هل اختبر ما سيختبره الناس بعد ألف عام؟ بالطبع لا.

فتاة في التاسعة والعشرين
لم تعانق من قبل
لم تمس يدًا ولم تقبل شفة
لم تتبادل عبارات الغرام
لم تر أحدهم في خيالها
أقرب من جالسٍ
على بعدٍ يسمح بالنظر
فتاة لم تنظر ولم يُنظر إليها
تملك أنوثة متواضعة
غير مختبرة
غير مضمونة
بدائية، غير مروضة
تريد لقاءك دون وعود
دون أمل
دون أن تتخلى
عن الخوف
عن الحزن
عن اللهفة التي
تصيبها بالشلل

من قصيدة «بلايند ديت»، من ديواني «مزاج القبلة».

كانت انطوائيتي وضعف مهارات التواصل الاجتماعي لدي، تصعّب الأمر أكثر. امتلاك شريك محتمل، يعني أولًا وقبل كل شيء أن أفتح نوافذي، أن أعرِّف نفسي وأتعرَّف على الآخرين، من خلال التواصل والتعبير، وأن أجد لنفسي لغة مرئية ومسموعة، لا مكتوبة فقط في فضاء إلكتروني ما. كانت هذه الخطوة الأولى تبدو مرعبة. وهذا جعلني أتساءل، كما في رسالة أرسلتها لإحدى صديقاتي: «لماذا لا تكون قصة الحب كلها مكونة من كلمة واحدة؛ (حضن). لماذا لا يكون شخصان لأحدهما الآخر كبطلين في فيلم من تلك الأفلام التي تملك أبطالًا صامتين يضمون بعضهم البعض بصمت، يعتنون ببعضهم البعض بصمت، يضحكون معًا ضحكات هادئة خجولة أو صاخبة دون سبب، ويبكون معًا لأسبابٍ كثيرة يعرفونها ولا يتحدثون عنها. تلك الأفلام، تعرفينها؟ غالبًا ما يكون أحد البطلين أو كلاهما معاقًا ذهنيًّا. هل المشكلة هي أننا لم نفقد عقولنا بعد؟ فلا نستطيع أن نحصل علی أحبة يحبوننا من غير كلام ولا شروط؟» هذه الفكرة الفانتازية التي نشأت في منتصف عشريناتي تقريبًا، كانت آخذة في النمو، حتى بدأت أتساءل: لماذا لا يأتي الجنس أولًا كوسيلة للتواصل؟ وربما أتى في ذيله الحب والتواصل العميق؟ تمامًا كما يأتي الحب بعد الزواج. هذا بالطبع إذا كنت أصلح للزواج وأرغب به حقًّا.

لديَّ إذن جسد أنثوي، هرمونات فعالة، حرمان جنسي وعاطفي، تخيلات حول طرق الإشباع، واستحالة الإشباع، وشعور بعدم اتضاح جنسانيتي بشكل عام. كنت أبحث وأقرأ بنهم، أريد أن أعرف، أستكشف، ربما تدلني الأبحاث والنظريات وتجارب الآخرين، على طريقة لفهم جنسانيتي والتعامل معها. قرأت كثيرًا عن الهوية الجنسية، والطيف الواسع من الميول الجنسية، وعن الخصائص الجندرية، والعلاقات العاطفية، عما يعنيه الجنس، عن نشأته وصوره وتأثيره على الإنسان. قرأت عن التجارب الأولى، وعن الاكتشافات الذاتية المتأخرة، عن المرأة التي ندمت على عدم ممارستها الجنس قبل الزواج، وكيف أن هوسها بالحفاظ على عذريتها طول تلك المدة، انقلب إلى غضب وتعاسة بل ورفض للدين الذي صوَّر لها أن الزواج سيكون أكبر مكافأة لها على صبرها هذا كله.

بعد فترة من انغماسي في تلك القراءات، بدأت أتساءل: ما علاقتي أنا بكل هذا؟ لماذا أقرأ هذا الخيال العلمي؟ هؤلاء أناس جنسيون يعرفون ما يتكلمون عنه، وأنا لا أعرف ما أكون. تعجبني هذه الفرضية! أنا «لا جنسية»! نعم لديّ رغبة، وأشعر بالمتعة حين أختلي بنفسي، لكني ربما لا أميل إلى ممارسة الجنس مع الآخر، ولا حتى للتقرب منه عاطفيًّا. أشعر بالانجذاب أحيانًا لبعض الأشخاص، لكن، أولًا، ما يدريني أنه انجذاب حقيقي؟ ربما كان نفورًا أو عدم ارتياح. ثانيًا، لو كنت راغبة في هذا التواصل، فلماذا لا أفعل؟ لماذا لم أفعل ولو مرة واحدة في الثلاثين عامًا الماضية؟ ما الذي يمنعني أو يمنع الآخرين من الاقتراب مني؟ حتى خيالي الذي يجمح أحيانًا، منفصل عني.

عقلي الباطن مش بيعرف يقرن أشخاص واقعيين بأحاسيس اللذة والانتشاء. الراجل الحلو اللي حضنني وحضنته منتهی الحضن في الحلم امبارح، شريك الحضن الراقص والنافذ في الضلوع، معرفوش.

كان الرجل موجودًا في خيالي، لكنه «رجل نظرية»، وكانت أحلام اختبار النظرية تراودني من آن لآخر. في مقالين تاليين سأتحدث عن تجربتين كبيرتين، أولاهما كانت تعالج النظرية بالمزيد من التنظير المرهق والمثير للإحباط، والأخرى كانت نقطة تحول خلقت واقعًا جديدًا، ملموسًا أو شبه ملموس، للمرة الأولى.

اقرأ أيضًا:

اكتشاف الجسد (1): ما قبل البلوغ
اكتشاف الجسد (2): حديث العذرية والختان
اكتشاف الجسد (3): جسدي المراهق
اكتشاف الجسد (4): تفاعلات المراهقة
اكتشاف الجسد (5): الزلزال الأول: موت الجسد
اكتشاف الجسد (6): حياة البرزخ الأولى
اكتشاف الجسد (7): موت أكيد للجسد
اكتشاف الجسد (8): حكاية أحمد ومنى
اكتشاف الجسد (9): الجسد والموت والخيال
اكتشاف الجسد (10): اكتشاف الصمت
اكتشاف الجسد (11): الفن والجسد والجمال
اكتشاف الجسد (12): تجربة عاطفية زائفة
اكتشاف الجسد (13): الخروج من الحب الزائف
اكتشاف الجسد (14): اختلاط الصداقة بالحب
اكتشاف الجسد (15): من النقاب إلى الحجاب إلى خلعه
اكتشاف الجسد (16): حكاية الفتى الحلم
اكتشاف الجسد (17): الصحيان من الحلم
اكتشاف الجسد (18): العين لا تعشق كل جميل
اكتشاف الجسد (19): اقتلني ولا تجعلني أمًّا

عن لبنى أحمد نور

لبنى أحمد نور