اكتشاف الجسد (18): العين لا تعشق كل جميل

بطبيعة الحال، تخلل محطات الإعجاب الكبرى التي مررت بها، افتتانات صغيرة، قد تطول وقد تقصر، لكن ما يجمع بينها كلها، وأعني بذلك جميع المحطات، أن ما شعرت به في أي منها، لم يرقَ إلى منزلة الحب المتبادل، ولا الحب الملامس للواقع، ولا الذي يريد ملامسته. لم أكن يومًا في علاقة عاطفية فيها إعجاب متبادل واعتراف متبادل بالحب وارتباط عاطفي أو نية في الارتباط. ذلك باستثناء علاقة واحدة، كادت أن تصل إلى هذه المنزلة.

في الجامعة، كان هناك أولاد وسيمون، كنت أرمقهم من بعيد ولم أرد الاقتراب من أحد منهم، ولم أتمنَّ ذلك، ولم أكن أعيرهم اهتمامًا إلا للحظات خاطفة. وكان هناك آخرون أثاروا اهتمامي بما يكتبونه على الإنترنت، أذكر منهم على وجه التحديد واحدًا ظللت لسنوات أتتبع خطاه، وربما أحلم به، وتصيبني حالة مبهمة من الارتباك، كلما لاحظته في قاعة المحاضرات أو في أي فراغ نكون فيه معًا. كان يخيل لي في فترة ما، أني أشعر بوجوده في المكان، حتى قبل أن أراه، ومع ذلك كنت أتجنب الاحتكاك به، وأتفادى التقاء عيني بعينيه. لم تكن طبيعة تأثري به واضحة، لم يكن جذابًا، وشيء في سلوكه العام لم يكن مريحًا ولا مألوفًا، ولا أذكر أني بادلته الحديث قط.

وكان هناك أيضًا أ. ص. الزميل والصديق الذي يصغرني بثلاث سنوات، لم أعرف عنه الكثير، ولم يعرف عني، لم نكن متشابهين، لكن جمعنا ود متبادل ومستمر. لا أتدبر أبدًا الناس المؤثرين في حياتي إلا وأذكره. كان يحترمني ويعاملني بلطف، وكنت أشعر بأنه يراني ويفهمني بما يفوق المتوقع من شخص يعرفني معرفته بي. أنقذني مرة أو أكثر في أعمال السنة، وكان يلحظ قلقي وتوتري ويطمئنني، وكانت طمأنته تجدي نفعًا، وتملأني بالامتنان، وهو أحد قلائل استمرت علاقتي بهم بعد التخرج، رغم اختلاف أهوائنا ومساراتنا.

عندما بدأت رسميًّا حياتي العملية، كنت ما زلت أحاول تجاوز توابع علاقتي الغريبة بـ أ. ش. لكن مصدر أنسي الجديد الذي اكتشفته حينها، كان وقع الأصوات الرجولية عليّ. كنت أحب كوني محاطة بأصوات زملائي، وكنت أفتقدها في الإجازات، لا سيما الطويلة. كانت أصواتهم تمنحني طمأنينة وانتشاء من نوع ما، وتثيرني، دون مشاعر جنسية تجاه واحد منهم بعينه. ثم حدث أن أتى من أسميته «الولد الجميل»، بعد حوالي شهر من نشري كتابي عن الفتى الحلم.

بدأ الأمر بانجذاب عارم لم أجد له تفسيرًا، ربما من اليوم الأول الذي رأيته فيه، ثم نما الإعجاب إلى محبة صافية متبادلة غير مصرح بها، أظنها ما زالت مستمرة حتى الآن. فوجئتُ بخبر خطبته بعد شهور قليلة من التقائنا، وحينها وجدت تفسيرًا لحالة عدم الارتياح المتبادلة التي كنت أشعر بها تجاه زميلتنا التي أصبحت خطيبته، لكن سرعان ما تلاشت مشاعر الانجذاب الجنسي، مع بقاء الانجذاب الإنساني، وشعرت بالسعادة من أجلهما. هو أيضًا لا يمكن أن أنساه حين أحصي أبرز الأشخاص الذين مروا في حياتي، وكثيرًا ما أراه في منامي رؤى شديدة اللطف. كتبت عنه الكثير، ومن ذلك قصيدة نشرتها في كتابي «مزاج القبلة»:

لا أدري
كيف تكون طيبًا إلى هذا الحد؟
في الحلم؟
يا صديقي

أعلم أن الأحلام خادعة
لم أعلمها إلا خادعة جدًّا
لكنك طيب جدًّا
داخل الحلم وخارجه

ما زلت أشعر بربتتك على ظهري
ما زلت أسمع كلماتك التي لم تقلها
لكنك عنيتها:
«لا بأس يا صديقتي، أنا أفهم»

لم يتكرر الأمر مع زميل آخر، بمثل هذه القوة والانتقال الناعم من الانجذاب إلى الصداقة الصافية، لكني كدت مرة أفقد عقلي، من شدة ما أثار أحدهم هواجسي. ظللت لأشهر تنقطع أنفاسي لمرآه، وسماع صوته، أو حتى مجرد تنفسه بقربي، لكن الفرق بينه وبين الزميل السابق، أنني لم أكن مغرمة بشخصيته كثيرًا، فقد كان الأمر في جملته حسيًّا فقط. لم أتمالك نفسي من الفرحة والارتياح، حين انتهت تلك الحالة وتبخرت إلى غير رجعة، وصرت أتعامل معه باعتباره صديقًا فقط، لا أريد منه أكثر من ذلك. ولعل من المربك أنني في الفترة التي أعجبت به فيها، كنت معجبة على التوازي بآخر لم ألتق به قبل، ولا التقيت به لاحقًا، لكن سيطرت عليَّ في فترات متفرقة رغبة في لقائه، وزججت باسمه في واحدة من أكثر قصائدي إيروسية، كما حلمت به هو الآخر وكتبت عنه كما هو ديدني.

كتبت في يناير 2017 عن صديق القصيدة الإيروسية وعن حكايتي مع الحب عمومًا:

أنا غير قادرة على الحب، قدرتي على صنع القصص الخيالية، متوازية ومتقاطعة. أفكر في ميم الذي ربما لن ألتقيه ولن أراسله أبدًا. وأفكر في دال، الذي تراودني فكرة الذهاب إلى السينما بصحبته، ربما سنتجاور على مقعدين في صالة عرض شبه خالية، وسأفكر كم أن وجودي معه مضيعة لفرصة أخرى، فرصة تجمعني بحبيب على مقعدين متجاورين، وتسمح لي بإراحة رأسي على كتفه، بعدما أكون قد تعلمت كيفية فعل ذلك. رأسي غير مزود بهذه الخاصية، ولا أعرف كيف يفعلها الناس ببساطة، فيسقط الرأس بالراحة في مكانه الصحيح. سأفكر في أني أريد أن أترك دال أمام الشاشة الكبيرة لوحده، وأذهب للحاق بحبيبي. سألحق بحبيبي الذي لا وجود له سوى في خيالي.

في خيالي، أرى ألف، أرى وجوهه الكثيرة التي أحب فيها شيئًا ما، شيئًا يبدو أليفًا، وصادقًا، ومفهومًا. نقطة ما في عمق عقلي، لا تصدق أنه صنيعة خيالي. نقطة ما في عمق عقلي تصدق صورته التي في عقلي، وتصدق أنها ليست خيالية مئة في المئة.

ألف ليس حبيبي، أعرف ذلك. وأعرف أني لو كنت مجنونة تمامًا، لكنت خرجت من بيتي في منتصف الليل، لأقابل ميم قبل أن يسافر. كنت سأقول له: تأخر الوقت يا عزيزي، لن أملك من الوقت ما يكفي لأحفظ ملامحك الحية وإيماءاتك، ولا ما يكفي لاسترجاع أسبابي. لا توجد أسباب لرغبتي في لقائك، ولا لرغبتي في توديعك. سأودعه بانصرافي عنه قبل انصرافه عني، أو سأودعه باحتضانه، ثم التلاشي.

لو كنت مجنونة تمامًا لهاتفت واو. لقلت له تعال يا عزيزي لنتناول معًا طعام الإفطار. أنا أحب النهار يا واو، ولو كان باردًا، وأحب أن أراك الرؤية الأولى، واضحًا، وجديدًا، كنهار جديد، وكصاحب جديد. ستحكي لي عن ألمك، وعن مغامراتك، وعن الحب، وعن الفقد، وسأحكي لك عن خوائي، وعن حلم ليلة البارحة الذي أخذ عقلي، وعن أني جالسة أمامك بلا عقل، وعن أني أحضّر نفسي للهرب، وسأهرب، وعن أن لطفك ووسامتك لن يمنعاني، ولن تلين مأساتك قلبي. قلبي أُخذ مني في حلم ليلة البارحة يا واو، وأنا الآن بلا قلب.

 

اقرأ أيضًا:

عن لبنى أحمد نور

لبنى أحمد نور