اكتشاف الجسد (16): حكاية الفتى الحلم

يناير 2014
– أنت الفتى الحلم؟ أعرفك بنفسي؛ أنا الحمقاء التي نسيت أن تشد غطاء الأمن على القلب قبل أن ينام.

– فرصة سعيدة.

فرصة سعيدة؟ قل فرصة خطيرة، فرصة مربكة، فرصة مهلكة … أين الفرصة أساسًا يا عزيزي؟ أنا ما زلت نائمة، وصبحك يغطي نصف الكرة الأرضية الآخر. هل حقًّا صافح سلامك اضطرابي؟ أم أنني كنت أحلم؟!

هذه المحطة دون غيرها، أتشكك في قدرتي على الإحاطة بها من جميع أطرافها، فهي باتساع كتابين ورسائل كثيرة، ورحلة من الأحلام والمشاعر، بدأت بالدهشة وانتهت بالرضوخ للواقع، بعد إدراكه على أقل من مهلي.

بدأ كل شيء في أبريل 2012، أي بعد مرور سنة بالتمام على رحيل أ. ش. وقطعي شوطًا في تجاوز قصته كما تقدّم في مقالين سابقين (12، 13). كنت وقتها في بدايات حياتي العملية، أنهي عملي في الثالثة مساءً وتأخذني خطاي إلى مكتبات وندوات ومعارض ودور سينما، أذهب إليها بصحبة نفسي، أدخل بصمت وأخرج بمثله، وأتأمل. بالأمس كنت في المنصورة، أقيم حفلة التوقيع الثانية للكتاب الأول الذي نشرته، وضمّنته مشاركات لحوالي ٨٤ مدونًا ومدونة. عن هذا الكتاب وما يليه، سيكون لي حديث مفصل آخر.

لكَ أن تصدِّقني إذ أقرُّ لكَ بأني لا أرغبُ منكَ بشيءٍ مما قد تندفعُ فيكَ من أجلهِ عاشقة. لا أرغبُ من كفّيكَ بأكثرَ من مصافحةٍ وجيزةٍ ماحيةٍ للذنوب، كاسحةٍ لاحتمالاتِ المعاودة. لا أرغبُ من عينيكَ سوى بابتسامةٍ لا تزيدُ عنكَ ولا تقل، ولا من بردِكَ إلا بغطاء.
أحد الشعراء المشاركين في الكتاب (أبجدية إبداع عفوي)، كان واحدًا من شعراء جيلي المفضلين لدي. شاعر مفكر واسع الاطلاع موجز القصائد، قصيدته عبارة عن خلاصةٍ معجزة، منتقاة الألفاظ، ثرية المعاني، ذكية، لا تثير الصخب، رغم ما يثور تحت سطحها وبين سطورها. كنت أقرأ له ويقرأ لي، وتواصلت معه ضمن من تواصلت معهم في أثناء إعدادي للكتاب.

كنت قد اعتدت حضور ندوة تقام بصفة دورية في أحد المراكز الثقافية، ويستقبل مقدمها كل مرة ضيفًا جديدًا. لم أعلم من الضيف هذه المرة، ولم أسع إلى ذلك، تاركة نفسي — كالعادة — للمفاجآت التي قلما خذلتني. كنت من أوائل الحاضرين، اخترت مقعدًا لم يجاورني فيه أحد بعد، ومع توافد الناس، سمعت خلفي صوتًا، وصوت آخر يناديه باسمه الذي أعرفه جيدًا. ماذا؟ الشاعر العبقري هنا؟ ورائي؟ سأراه إن التفت؟

نتوازى..
يمتدُّ فينا جنونٌ وتهوِيس
نتقاطعُ..
فيُعمَّى النَّبضُ والزّمن
نتماسُّ..
يكونُ خرَس.
كان لا بد لي في النهاية من اتخاذ قراري بالالتفات. التفت وإذ هو هناك، بهيئته الفوضوية المألوفة والباعثة على الارتياح. ذهبت إليه وسلمت عليه. تردد في مصافحتي، لكني أعربت عن رغبتي في مصافحته، ومددت يدي مصافحة يده. تحدثنا قليلًا ثم هرعت إلى الحديقة الخارجية لألتقط أنفاسي. اتصلت بأختي، وأخذت أكلمها بلهجة هستيرية: إنه هنا، فلان هنا، هل تصدقين؟ أنا لا أصدق، ماذا أفعل؟ دبري لي!

رأيته للمرة الأولى وهو يعرض أفكاره ورؤاه، بصوته المتهدج وتعبيره الذكي والسلس. أعجبتني أفكاره المكتوبة، وها هي تثير إعجابي أيضًا، وهي طازجة، ينطق بها لسانه الآن. وحينما انفضت الندوة، عبر لي عن سعادته بلقائي، مثلما تقتضيه اللياقة، سكتُّ هنيهة في ارتباك ملحوظ، ثم قلت: أنا أسعد، مثلما تقتضيه اللياقة أيضًا.

هيَ؛ تقضي جلَّ الوقتِ ميّتةً تشتهي — والأمواتُ لا يشتهون — أن تمارسَ الحياةَ معهُ — والأحياءُ سواهُ موتى — وتتوقُ إليه. تنتقي كلَّ شوقٍ أليَنَ أقلامِها، تتناولهُ بين هامِسيْها فيسحبانهِ على ألواحٍ صُفرٍ مُخضّبةٍ برذاذِ روحها راسميْن: “أنتَ الحُلمُ وتأويلُه”.
هل كان اللقاء بداية لصداقة واقعية؟ أو حتى صداقة أعمق من تلك القائمة بالفعل على الإنترنت؟ لا، لا شيء من ذلك. كان اللقاء بداية للأحلام، وللكتابة عنها، وللقاءات خاطفة مثل هذا اللقاء، بعضها مفاجئ وعفوي، وبعضها متعمد من جانبي فقط، وكلها لا يُقال فيها أكثر مما قيل في اللقاء الأول، لكنها مثلت وقودًا مستدامًا لمزيد من الأحلام، ومزيد من الكتابة.

عُدتَ إلى الحُلم.
مرحبًا.
تصيرُ حقيقيًّا يومًا بعد يوم
وأُجنُّ أكثر.
سمّيته الفتى الحلم، وجمعتُ في العام التالي باقة مما كتبته عنه، ليكون كتابي الأول «عن وإلى الحلم لا يؤلم». كان ذلك بعد مضي بضعة أشهر على عودة أ. ش. للظهور معتذرًا، ثم محاولتي رؤيته في بداية العام ورفضه معلنًا هجره حب النساء. لماذا اهتممت بجمع الكتاب وإتاحته إلكترونيًّا رغم الارتباك الذي حصل في الفترة السابقة؟ أحد الأسباب تمثل في أنني أريد الاحتفال بامتلاكي قصة، هي ملكي وحدي للمرة الأولى. أنا من اخترت الفتى الحلم، وحلمت به وكتبت عنه، دون إشراك أحد — ولا هو شخصيًّا — في الأمر.

ما الأمر؟ أهو إعجاب امرأة برجل؟ أهو تعلق عاطفي؟ بدا كذلك في بعض ما كتبت، لكنه في جوهره لم يكن بهذا الوضوح والتحديد. كان مجرد وجوده في المكان ينبه حواسي ويوترني، وكانت ابتسامته تسحرني، إلى آخر ما هنالك مما كتبت عن افتتاني به. لكن، هل كنت أتطلع إليه كشريك محتمل أو مرغوب؟ ليس تمامًا، أو، من يدري فيمَ كنت أفكر؟ لنسأل بنتًا حديثة عهد بالمراهقة، عن طبيعة مشاعرها تجاه معلمها الذي تحبه. أراهن على أن مشاعرها ستكون أكثر تحديدًا من مشاعري.

في الحقيقة.. أنتَ — على السطحِ هنا — لستَ حقيقيًّا البتة، ليس بقدرِ ما أنتَ حقيقيٌّ في نفسكَ وما التصقَ بها من وعيٍ وجسد. أنتَ حقيقيٌّ جدًّا، على النحو الذي يقصُرُ عن الوقوف على أبعادهِ إدراكي.. حقيقيٌّ جدًّا إلى الحد الذي أكونُ فيهِ أنا في ميزان تحقُّقِكَ مستحيلةَ الحدوث.
مع ذلك، كنت أتمنى لو امتلكت الجرأة لإخباره بأن هاء «إليه» التي في مقدمة الكتاب، عائدة عليه هو، لكنني لم أفعل، وادخرت ذلك إلى العام التالي، حين صنعت من الكتاب نسخة جديدة، أضخم وأكثر خصوصية، جمعت فيها معظم ما كتبته عنه خلال العامين، وما حدثت به نفسي وأصدقائي عنه. طبعت الكتاب ولففته في علبة هدايا معطرة، صففت شعري وابتعت سترة جديدة، وذهبت إلى لقائه بناءً على موعد مرتب سابقًا هذه المرة.

كانت المرة الأولى التي أجلس إليه فيها وحدنا نتجاذب أطراف الحديث، أناوله هديته، ثم أتمشى معه لنحضر عرضًا مسرحيًّا اتخذته ذريعة لطلب لقائه. كنت بطبيعة الحال منتبهة إليه أكثر من انتباهي للمسرحية، وكنت أشعر باطمئنان وسعادة غامرة، امتدت حتى آخر لحظة وهو يودعني في طريقي إلى بيتي، ثم وصولي إلى غرفتي واندساسي في فراشي، وأنا أرتجف من الفرحة ومن الخوف. لا بد أنه يحل شريط الهدية الآن، ويرى اسمه في مفتتح الكتاب، ويقرأ مقدمتي التي أشرح فيها إعجابي به، وأتنصل من أن يكون انجذابًا عاطفيًّا، ولا أسأله شيئًا في مقابل مبادرتي الشجاعة.

لأنني الضدّانِ
مهما اقتربتَ احترقتَ
لأنكَ ضدٌّ.. لن تقترب
لأنكَ لأني.. لأني أنا
أنّى لنا؟!!
في الصباح، أتفقد بوجلٍ رسالة كان قد أرسلها لي من الليلة السابقة، يشكرني فيها ويمتن للهدية، ويقول لي لعلها تكون بداية صداقة. رسالة مختصرة اعتدتُ لاحقًا أن أعبر عن فحواها بهذه الطريقة المختصرة أكثر: قال لي شكرًا كتّر خيرك، خلينا أصحاب أحسن.

 

* الاقتباسات من كتابي «عن وإلى الحلم لا يؤلم» و«العذراء تقتل أطفالها».

 

اقرأ أيضًا:

عن لبنى أحمد نور

لبنى أحمد نور