اكتشاف الجسد (15): من النقاب إلى الحجاب إلى خلعه

لبنى أحمد نور

الزمان: يوم الخميس 26 ديسمبر 2013، الساعة 8 صباحًا.

المكان: محل عملي، الذي يضم قرابة 1000 موظف وموظفة.

الحدث: خلعت غطاء رأسي الذي تصادف أني لم أحكم ربطه جيدًا قبل خروجي من المنزل، وحررت شعري الأسود الطويل.

بالعودة إلى الوراء أشهرًا قليلة، كنت أخوض مواجهة مشتعلة مع أختي الصغرى ذات الأربعة عشر عامًا، لأنها خلعت الحجاب بعد حوالي سنتين من ارتدائها له. كنت أعارضها بشدة، وربما منعتها أكثر من مرة من الخروج من المنزل على تلك الهيئة. أجد صعوبة في تذكر جميع الأسباب التي واجهتها بها، لكن لعل من أبرزها الإثم الذي ستبوء به، وما سيقوله الناس، وكيف أنها ستصغر في أعينهم وتجر الفضيحة على نفسها وعلى أسرتها وعليَّ باعتباري الأخت الكبرى. كانت المراهقة حازمة في قرارها الذي رضختُ له بالتدريج، لا اقتناعًا به، ولكن لأني لا أملك إلا دعمها ومساندتها في كل الأحوال، فلأدعها تجرب وأمنحها ثقتي، وهي ستصحح نفسها مستقبلًا إن رأت فساد رأيها.

ما لم أتوقعه حينئذ هو أن أتبعها، لا تقليدًا لها (للعيال الصغار كما قال بعض أقاربي) ولكن اقتناعًا مني بضرورة تلك الخطوة بالنسبة لي. بدا أن الأمر لم يحتج مني إلا لبضع دقائق أمام المرآة ودفقة من الشجاعة جعلتني أخرج إلى أروقة الشركة بهيئتي الجديدة، في خطوة سبقها حوار داخلي طويل، ومراجعة لأفكاري، ولهويتي وصورتي أمام نفسي، وأخذ ورد ونقاشات، وجس لنبض إخوتي، رحلة طويلة انتهت إلى ضيق صدري بهذا الزي الذي لم يعد يعني لي شيئًا، وأصبح يشعرني بالغضب وبعدم الاتساق مع نفسي. أصبحت انعكاساتي في المرايا كريهة إلى أبعد حد، لكن خوفي من ردود أفعال المحيطين بي على اختلافهم كان عظيمًا، مما أخَّر تنفيذي لما عزمت عليه، فضلًا عن رهبة التحول مما اعتدت عليه لسنوات طويلة، إلى شيء جديد غير مألوف، حتى وإن كان مرغوبًا.

لم يطابق أي من ردود الأفعال توقعاتي تمامًا، فبعضها جاء أخف مما توقعت، وبعضها كان مبالغًا فيه بما يفوق التصور. زملائي امتنع أكثرهم عن إبداء أي تعليق، ولو بالدهشة غير المنطوقة، وألقى بعضهم تعليقات مرحة لا تعبر عن موقف بعينه، وإن كان بعضها يميل إلى الاستحسان وبعضها الآخر إلى الاستهجان، لامتني قلة من الزميلات، بما لم يضايقني كثيرًا. رحبت أختي الصغرى بخطوتي، واعترضت الوسطى، فيما استاء أخي بشدة، وشعر بالحزن، ورأى أني أضر نفسي وأضر أسرتي دون داعٍ، وأقلل من احترام الناس لي، سألته: هل كل غير محجبة غير محترمة؟ فأجاب: لا، ولكن من خلعته بعدما ارتدته هي كذلك.

إذا حملتُ الكاميرا وابتعدتُ لألتقط صورة من الخارج، لرأيت طفلة في العاشرة تجادل أمها في أنها تريد ارتداء الحجاب الآن وأمها تعقِّلها، ثم أرى مراهقة في سن الثانية عشرة وقد غطت رأسها ووجهها وكفيها ولم يعد يبدو منها أي شيء، اتباعًا للرأي القائل بأن هذا هو الحجاب الشرعي الصحيح، الذي يؤمن به غالبية الناس في بلد الإقامة، ويشدد عليه شيوخهم متسلحين بالأدلة والبراهين الدامغة. وفي سن التاسعة عشرة كشفت البنت وجهها وكفيها، نزولًا على الرأي القائل بأن الحجاب الأمثل هو ما اتفق مع ما جرت عليه عادة أهل البلد، ولم يخالف الثابت من الدين، وظلت تتحرك في ذلك الهامش الاجتماعي المقبول، فتارة يطول غطاء رأسها، وتارة يقصر، وتتغير أشكاله وألوانه، لكنه ما زال في عرف الناس حجابًا، يواري الشعر، ويمنح المرأة قبولًا واحترامًا واعترافًا بالأخلاق والفضيلة.

وفجأة، تُلتقط صورة للشابة ذات السادسة والعشرين ربيعًا، بجانب شجرة عيد الميلاد الكبيرة الموضوعة في مدخل الشركة التي تعمل بها، وهي ترتدي سترة حمراء، وقد صففت شعرها لينسدل على أحد جانبي رأسها. صورة أثارت إعجاب البعض فقدموا التهاني والتبريكات، وأغضبت البعض الآخر، فألقوا المواعظ والإنذارات بسوء العاقبة.

لم أكن يومًا صدامية ولا محبة للظهور، فلم أكثر من الشرح والتبرير، لكن عندما سئلت على مواقع التواصل الاجتماعي رددت ردودًا مقتضبة أحيانًا ومفصلة أحيانًا. قلت إنني لفترة ليست بالقصيرة لم أكن أرتدي الحجاب بمفهومه الديني، لكن رأيت أنه الأنسب اجتماعيًّا، وأنه حتى لو كان واجبًا دينيًّا فهو كذلك من باب عدم مخالفة العرف الاجتماعي والشذوذ عنه. وأضفت أن تلك المواءمة فشلت مع الوقت، ووجدت أنني أظلم نفسي وإنسانيتي لإرضاء فكرة ليست على هذا القدر من الأهمية بالنسبة لي. وحين نما اقتناعي بأن نزعه أفضل ويجعلني أشبه نفسي أكثر، ظل هناك حاجز نفسي بيني وبين اتخاذ القرار، لكن أشياء كثيرة تغيرت، أصبح معها ما يُسمى «خلع الحجاب» بمثابة «تصحيح لوضع خاطئ».

كنت أرد على من يقول إنه حزين من أجلي، قائلة إني لست حزينة، بل مطمئنة وراضية. أكدت أكثر من مرة على أن قراري شخصي للغاية، ولا ألزم به أحدًا، وأومن بحق كل امرأة في اختيار ما يناسبها، وليس لأحد التدخل في ذلك، أيًّا كانت صفته، مع عدم اعتراضي على من ينصح بما يراه صحيحًا، لكن ليس له إلزامي بالعمل بنصيحته، ولا الإلحاح عليَّ في ذلك، ولا إيذائي بالطبع. أعلنت عن اعتقادي بأن الهدف من الملابس سواء للذكور أم للإناث وظيفي وإنساني من الدرجة الأولى، وما غطاء الرأس إلا قطعة من القماش، تُرتدى وتُخلع حسب الحاجة إليها، موضحة أن ما يُسمى «الحجاب» هو أسلوب حياة في رأيي أكثر من كونه فرضًا دينيًّا، لأن تمدن الإنسان وتغير الزمن، جعلنا في حاجة (لاعتبارات بيئية واجتماعية) لستر أبداننا. أما الدين فلا يريد لنا إلا أن نحيا حياة طيبة، وأن تكون ملابسنا ملائمة لحياتنا ومهننا، فقد يحتاج الرجل لتغطية رأسه لحمايته من الشمس الحارقة، ولو عارضه أحدهم وطلب منه كشف رأسه، لقلنا له: «حرام».

استتر البعض خلف هويات مجهولة، ووجهوا لي اتهامًا بالإلحاد، أو تزعزع العقيدة الدينية على أقل تقدير، وهؤلاء رددت عليهم في نقاط محددة:

  • أن الاتهام متوقع إلى حد ما.
  • أن كونه متوقعًا يشير إلى أزمة حقيقية، وكأن الناس يتوقعون هجرات مكثفة من الدين، ويرون خلع الحجاب من علاماتها.
  • لماذا نقرن بين خلع الحجاب و«خلع الدين»؟ هل كل من لا تغطي شعرها خارجة عن الدين؟
  • هل العلاقة بين ارتداء الحجاب وعدمه وبين الإيمان والكفر، علاقة بين مظهر وجوهر؟ ما معنى المظهر والجوهر؟
  • بم يُقاس تزعزع العقيدة الدينية؟ هل يصلح الحجاب مقياسًا؟
  • لماذا التدخل في عقائد الناس وتقييمها أصلًا؟

كل ما تقدم كان بمثابة حروب افتراضية خفيفة الوطء، لكن العواقب الوخيمة والتعليقات المؤذية أتت من عدد من أفراد العائلة. نال أخي الدفعات الأقوى من الهجوم والسباب، باعتباره مسؤولًا عني في نظرهم، ويجب عليه أن يعيدني إلى رشدي بأي طريقة كانت، على الرغم من أني أكبره سنًّا ولست قاصرًا. دافع عني أخي رغم اعتراضه على فعلي، لكن لم يكن هناك بد من تضرر علاقة بيتنا ببعض بيوت العائلة، وظلت التعليقات السلبية والنظرات اللائمة مستمرة على مدى السنوات التالية، وإن خفتت حدتها بالتدريج، واعتاد معظمهم رؤيتي بمظهري الجديد الذي يخالف مظهر معظم نساء العائلة، وإن كان ما زال يغلب عليه الاحتشام.

أما الموقف الأغرب فحدث بعد حوالي سنتين، حينما هاتفتني إحدى قريباتي داعية إياي لزيارتها، لتفاتحني في أمر «عريس لا يُرفض» يريد التقدم لخطبتي. وصفوني له وقالوا له إنني جميلة ومتدينة وعلى خلق، أي أنني ضمنيًّا محجبة، ووضعوا خطة لتعرفي عليه، شريطة أن أحضر للقائه مرتدية الحجاب. حسنًا، سأترك للقارئ تخيُّل ما كان ردي!

 

اقرأ أيضًا:

عن لبنى أحمد نور

لبنى أحمد نور