اكتشاف الجسد (14): اختلاط الصداقة بالحب

«يا شمس، هل تعلم أني أكرهني عندما أكون غير متأكدة؟ بالطبع أنت لا تعلم. أنت لا تعرفني حتى.

بخلاف حبيبي الذي كلما واجهته كان يظهر لي ممسوحًا، تتجلى لي أنت واضحًا جدًّا كابتسامة كبيرة حاضنة.

حسنًا، عندما رأيتك آخر مرة كنت في عيني أكثر من مجرد ابتسامة، كنت الرجل الدفء. لا، ليس كدفء الحبيب. أنت لست حبيبي أصلًا. لكنك أحطتني من كل جهاتي بشيء كاسح غامر، كشمس شتاء حنون.

لن أخبرك أنني تمنيت حينها أن أدسني بين منكبيك المتسعين كأفق. لن أخبرك، لا لشيء إلا لأنني صدقًا — وبكل التأكيد — ما تمنيت ذلك قط. كنتَ مني على المسافة الملائمة تمامًا للإشباع.»

لم أمتلك يومًا الجرأة على الحديث عن ط. ع. باعتباره واحدًا من الأشخاص البارزين الذي مروا في حياتي، ربما لأنه كان غريب الأطوار، وعلاقتنا كانت غريبة وغير محددة. الفقرات التي في الأعلى كتبتها عنه في أبريل 2012، في تدوينة من ثلاثة أجزاء، كان جزءها الثالث هو أول ما كتبت عن «الفتى الحلم» الذي سأفرد له مقالًا أو أكثر لاحقًا.

كان ط. ع. وأظنه ما زال، أحد قرائي الدائمين، منذ فبراير 2010. إعجابه بما أكتب، وتعليقاته غير المفهومة عليه، وربما مغازلاته المستترة، واهتمامه بي، كل ذلك كان يثير حيرتي وتوجسي. أظنه حاول مراسلتي للمرة الأولى بذريعة الاطمئنان عليّ حين كتبت خاطرة قصيرة أنعي فيها أحد أعمامي. وعلى مدار شهور، امتد تيار ناعم من الرسائل بيني وبينه. لم نكن نتبادل أشياء شخصية، بل نتفلسف، ونتكلم عن الكتابة والمسائل الوجودية المحيطة بها.

رأيته للمرة الأولى في نوفمبر 2011، حين ظهر ظهورًا خجولًا في لقاء نظَّمته للمدونين في مكتبة في وسط البلد. خجله لم يخفِ فرحته برؤيتي، ولم يمنعه من استراق النظر لي بين فينة وأخرى. بدا بعد هذا اللقاء أنه يتحين الفرص للظهور في محيطي كلما أعلنت عن وجودي في مكان ما في وقت محدد. ذات مرة، أرسل لي يقول إنه رآني وسط أصدقائي في حفلة التوقيع الأولى للكتاب الجماعي الأول الذي قمت بجمعه ونشره، وتحدث عن أنه خجل أن ينضم إلى الجمع ويسلّم عليّ، مؤثرًا المراقبة من بعيد.

بمرور الوقت، أصبحت أشارك معه بعض المعلومات الشخصية عني وعن أسرتي، وشيئًا من يومياتي، وكان هو أيضًا يحكي لي عن زوجته وطفليه، وعن تلك العلة التي تحيل حياته جحيمًا من وقت لآخر. كنت أنتظر رسائله بشغف، أشكو له ويشكو لي، يعلق على ما أكتبه وأعلق على ما يكتبه وأصحح له أخطاءه اللغوية. وحين ظهر الفتى الحلم، حكيت له عنه، فرح من أجلي، وحمّسني، وأسداني النصائح، لكني فوجئت بما يشبه الغيرة، يطل من بين سطوره، فبدأت أتنحى جانبًا.

في مرحلة ما، بدأت أشعر بأنه يحاصرني، ويتملكه هوس من نوعٍ ما بي. من ناحية، كنت أحب اهتمامه بي، وإنصاته لي، وفهمه لما يدور في رأسي، ومن ناحية أخرى، كان يخيفني، وكنت أخشى أن يكون تعلقه بي عاطفيًّا كتعلق حبيب بحبيبة، وهو ما لا يمكنني السماح بحدوثه، حتى لو زيَّن لي الأمر فراغي العاطفيّ في وقت أو آخر.

كنت أملك له مشاعر مودة حقيقية، وأحب وجوده في حياتي، رغم كل شيء، لكنني لم أكن لأفكر فيه جديًّا كشريك عاطفي محتمل، حتى لو لم يكن متزوجًا، لكن وجود زوجته وأطفاله في المشهد، كان يثير هلعي، وينفرني منه، وهو ما جعلني أبعده أكثر من مرة، وأتشاجر معه، حتى امتلكت الجرأة أخيرًا في مايو 2013 لأسأله بوضوح: «هل تحبني؟»، أجابني بأنه الاهتمام وليس الحب بما فيه من غيرة ولهفة، ثم استدرك قائلًا إنه يغار عليّ أحيانًا ويشتاق إليّ. أما أنا فقلت له إنني لا أحبه ولا أفكر فيه بتلك الطريقة، وأريد أن يكون ذلك واضحًا دون مواربة.

بعد تلك المواجهة، مات الكلام بيننا تدريجيًّا، لكنه ظل يقرأ لي، ويبارك لي كلما أصدرت كتابًا جديدًا، ويكتب أحيانًا أشياء أتصوّر أنني المقصودة بها، لكن أحدنا لن يحاول الاتصال بالآخر، ليس بعد مايو 2015.

في نوفمبر من العام نفسه، كتبت له رسالة طويلة، لم أوقعها باسمي، ولم أصرّح فيها باسمه، لكن أغلب الظن أنه قرأها على كل حال.

كتبت له فيما كتبت في الرسالة:

«كنت أفكر فيك حين مر بجواري ولدان على دراجة آلية مسرعة، خطفا حقيبة يدي بنية اللون البالية، بكل ما فيها، وتركاني أصرخ مستنجدة ولا أحد ينجدني.

سُرقت، وأنا أفكر فيك، في خطيئة التحدث إليك، سُرقت كل أوراقي ونقودي، ولم يتبق معي إلاي، والهاتف الذي يحمل مكالمتيك، الفائتتين لحسن الحظ، وعدد من نوبات الذعر، وشعور بأنني أعاقب، وبأنك أنت الشرير الذي لم ينجني منه إلا فعل الأشرار الذين سرقوني في وقت كنتُ فيه من أوهن ما أكون.

كان ذلك رادعًا قويًّا، لكنه، كما ترى، لم يمنعني من معاودة التفكير في الماذا لو.

ماذا لو أرسلتُ لك رسالة قصيرة أدعوك فيها إلى مشاركتي فنجانًا من القهوة، كصديقين قديمين لم يفزعهما من قبل احتمال أن أحدهما كان يخلط بين الصداقة وبين الحب، ولم يضطر أحدهما الآخر إلى الخروج من الصداقة مكرهًا، لا لشيء إلا لتجنب فقدان العلاقة الثمينة لحساب علاقة مرتبكة تضر أكثر مما تنفع، وتسيء إلى آخرين.

أعترف، أنا مشتاقة إليك، إلى تفهمك، إلى رسائلك، وإلى القراءة لك، والاطمئنان عليك، والدخول إلى رأسك الفوضوي، إلى أن أحكي لك عما يحدث لي، وعن يأسي من الحب.»

 

اقرأ أيضًا:

عن لبنى أحمد نور

لبنى أحمد نور