اكتشاف الجسد (13): الخروج من الحب الزائف

– آسف، لكني هجرتُ حبَّ النساء.
– لكن، أنا لستُ النساء يا أحمد.

هذان السطران ينتميان إلى الفصل الأخير من حكاية أ. ش. غير العاطفية. كنت قد اتصلت به في أواخر عام 2012، وطلبت منه أن نلتقي. أردت أن أعرف مَن تُراه يكون هذا الشخص الذي لم أره إلا مرة واحدة، الذي قال لي إنه يحبني، ولما بدأ قلبي يميل له هجرني، لأن قلبه مكسور بسبب أوضاع البلد، البلد الذي «لم يكن ليحزن على موت أبيه وأمه حزنه على ضياعه». كان صارمًا في قطع السبل بيني وبينه. تجاهل رسالة الحب التي أرسلتها له في الذكرى الأولى لزيارته لي، وتجاهل تعليقًا لي على إحدى تدويناته القديمة المرتبطة عندي بذكرى ما، ثم عاد ليظهر فجأة في نوفمبر من العام التالي، ليعتذر لي عن كسره لقلبي (حقًّا؟!)، وليطلب مني أن نعود أصدقاء (وهل كنا كذلك يومًا؟!).

فاجأتني رسالة الاعتذار تلك، وكان واضحًا أنه يطمح إلى تحسين صورته، ويعيد التأكيد على أنه «صادق ونظيف وذو خلق رفيع عمومًا» يؤهله لنيل عفوي عنه ولقبولي صداقته من جديد. أما بالنسبة لي، فقد كانت رسالته إيذانًا بعودة أحد الأموات الذين بذلت في سبيل تركهم يذهبون طاقة نفسية كبيرة.

توقفت حياتي تمامًا في الشهور الأولى بعد اتخاذه قراره («الصعب عليه») بالرحيل. توقفت حياتي بطريقة لا تتناسب مع الحيز الفعلي الذي شغله من حياتي. دخلت في حالة اكتئاب حاد، وكدت أضيّع سنة دراسية كاملة، لولا أن أختي الوسطى أخذتني إلى طبيبة نفسية، ونجح مضاد الاكتئاب الذي وصفته لي الطبيبة في السيطرة على الأعراض الجسدية للمرض، وإكسابي بعض الاتزان، حتى تشجعتُ أخيرًا وذهبتُ إلى الأستاذة المشرفة على مشروع تخرجي، وناقشتُ معها تعثري في إنجازه، المناقشة التي انتهت بتغييري المشروع والاستعاضة عنه بنسخ أحد مشاريع التخرج القديمة، مع بعض الاجتهاد الشخصي، لأتخرج بعد شهرين بمعجزة.

لم يكن انهياري النفسي متعلقًا بشخص أ. ش. ولا بعلاقتي به (التي لم تكن قوية من أي جهة كانت)، بل كان في الحقيقة متعلقًا بي، وبعقدتي القديمة مع الفقد والتغييب القسري والمفاجئ للأشخاص المهمين في حياتي. استعدت تفاصيل رحيل والديّ، وعايشت مشاعري تجاه موتهما من جديد. استعدت شعور الوحدة والاحتياج وقلة الحيلة، وكوني مهجورة ومكشوفة الظهر، وارتطمت بجدار سميك عالٍ مصمّمٍ للحيلولة بيني وبين فهم ما حدث، والحصول على إجابات عن الأسئلة العالقة.

بهذا المعنى، لم يكسر أ. ش. قلبي، لأنه لم يكن فيه حقيقةً، حتى مع إلباسي مشاعر الحزن والفقد التي أصابتني بعده، لباس الحب. لم يكن عليه الاعتذار عن كسره قلبي، بل كان عليه الاعتذار عن إصراره المغرور على إدخال هذا القلب في تجربة زائفة مشوهة، لم يهتم فيها بالتعرف عليّ حقًّا، ولم يسمح لي بالتعرف عليه، بل كان يملأ فراغًا لديه (كان ينكر وجوده)، ونبّهني للمرة الأولى في حياتي، إلى أنني أملك فراغًا مشابهًا في داخلي، يُفترض به أن يجد شريكًا حقيقيًّا يستطيع ملأه حقيقةً.

انقلب عالمي بعودة أ. ش. من بين الأموات، وأردت أن أراه، لأعرف ماهيته، لأطرده من عقلي إلى الأبد، أو لأكسبه من جديد، أو بالأحرى، لأكسبه للمرة الأولى. لم يمانع لقائي، وحددنا أول يوم في العام الجديد موعدًا للقاء، لكنه اعتذر عنه فجأة قبله بيوم أو يومين، قائلًا إنه «هجر حب النساء».

بغض النظر عن أن ذاك الرجل الذي هجر حب النساء، أعلن خطبته لفتاة أخرى بعد أشهر قليلة، فقد وضعت تلك المشادة الأخيرة بيني وبينه، حدًّا صريحًا لمشاعري تجاهه وتجاه تعلقي بفكرته، وإضفائي صبغة درامية ورومانسية على مروره الغريب في حياتي. ليس ذلك فقط، بل كانت تلك النقطة، نقطة تحول أساسية في حياتي، وفي فهمي لنفسي، ورؤيتي لها ولما تستحقه، وإعادة تقييمي للكثير من أفكاري حول نفسي وحول الآخرين.

ستتجلى موجة التغيير الكبيرة تلك في 2013، في ذروتين واضحتين، إحداهما في أبريل، والأخرى في ديسمبر. الأولى متعلقة بالاحتفاء بمشاعري الخاصة تجاه شخص يعجبني ويسكن أحلامي، سأسميه «الفتى الحُلم»، والثانية متعلقة بالتفاتي إلى جسدي، ومحاولة إخراجه من القمقم، وتعريضه للضوء، وإعادة اكتشافه. عن هاتين الذروتين سيكون لي حديث مفصّل في مقالات قادمة.

 

اقرأ أيضًا:

عن لبنى أحمد نور

لبنى أحمد نور