«الفاضلة لبنى، هل تسمحين لي بتواصل معك؟»
كنت في الثالثة والعشرين، أنهيت عامي الرابع في الجامعة وأستعد لبدء الخامس. بجانب الدراسة والمشاركة في تسيير أمور البيت، لم يكن لي أصدقاء، ولم أكن أفعل شيئًا غير القراءة والتدوين. كنت أدوّن بلغة مبهمة في الغالب ومنغلقة على نفسها، تشبهني، لكنها لا تقول عني الكثير. قبل شهرين أقنعتني أختي الوسطى بضرورة الذهاب إلى طبيب يساعدني في إنقاص وزني. كانت نتيجة الحمية الغذائية مذهلة بالفعل، وفقدت على مدار أسابيع ما يقارب عشرين كيلوجرامًا. تحسنت صحتي الجسدية والنفسية، وأصبحت أشعر بخفة أكبر، وأرتدي مقاسات أصغر فأصغر، ولو أن عقلي ما زال يحتفظ بصورة أضخم لي، ويتعجب كلما نظر إلى انعكاساتي الجديدة في المرايا، غير مصدق ما يراه.
لم يكن أ. ش. قد رأى أي صورة لي عندما أرسل لي رسالته الأولى تلك، ولم يكن بيننا أي تواصل من أي نوع، إلا ما كان له من تعليقات قليلة على تدويناتي الأخيرة. رددت عليه بشيء على غرار: أنت تتواصل معي الآن بالفعل، ماذا تريد؟ طلب مني رقم هاتفي أو بريدي الإلكتروني، ليحدثني بأمر مهم، وبالفعل وصلتني منه في اليوم التالي رسالة طويلة، يتحدث فيها عن نفسه وعن أسرته، وعن أنه يتابع مدونتي منذ شهور، ويريد «الزواج» بي.
كانت هذه هي المرة الأولى التي يسعى فيها أحد من الجنس الآخر إلى التعرف عليّ لهذا الغرض، أو لأي غرض. كان الأمر غريبًا ومثيرًا ومرهوبًا بالنسبة لي، تسارعت أنفاسي، وتعالت ضربات قلبي، واستنجدت بإخوتي ليقرؤوا معي رسالته، ويفتوني في أمر الرد عليها. كان يكبرني بعام، ويقيم في مدينة أخرى، ولديه حياة مهنية غير واضحة المعالم، لكنه كان يعتبر نفسه مذيعًا عذب الصوت لم يأخذ فرصته بعد، وعضوًا نشيطًا في الحزب الحاكم، يحب الوطن ويريد الاقتران بمن تحب الوطن معه، لتكوين أسرة عاشقة للوطن.
بعد مناقشات مع إخوتي، جهزت ردًّا بليغًا وأرسلته له، قلت فيه إني أقدِّر طموحه وأهدافه في الحياة، وأتمنى أن يجد من يحققها معها، لكن لدي أهدافًا أخرى، ولست مهتمة بعرضه، خاصة في هذه المرحلة من حياتي. من جهته هو، شعر بالأسف، وعبر عن احترامه لجوابي، لكنه عاد بعد أيام ليقول إنه يحبني، ويطلب مني إعطاءه الفرصة للتحدث معي، وهو مستعد لمقابلتي أنا ووالدتي، ليثبت لي جديته وحسن نواياه.
كان كل إشعار برسالة جديدة منه يربكني ويجعل قلبي يخفق بقوة، كمن ظهر له ذئب مفترس قبل لحظات، وما زال يعدو بأقصى سرعته ويعدو الذئب خلفه. حيرتني جرأته في طلب مقابلتي وهو لا يعرف عني أي شيء ولا يعرف شكلي حتى. لكني قررت امتحان مدى جرأته، وقلت له إن والديّ متوفيان، ويمكنه — إن أراد — أن يأتي للتعرف عليّ أنا وإخوتي في بيت خالي، فوافق!
في يوم الثلاثاء، السادس من أكتوبر 2010، ارتديت تنورتي البيضاء الجديدة ولففت طرحة فضية اللون حول رأسي، ووضعت على وجهي أصباغًا خفيفة، وجلست في انتظار ذلك الرجل الغريب الذي يقول إنه يحبني دون أن يراني أو يسمع صوتي، غير مصدقة أنه سيأتي بالفعل.
سألته زوجة خالي عما أعجبه فيّ، فقال — وهو ينظر لي بطرف عينه — إني كاتبة مبدعة، وسيكون لي مستقبل مبهر، وإنني أفضل من الكثير من الكتاب المشهورين المزيفين. طبعًا، لا مستوى كتابتي آنذاك ولا نوعيتها، كانا يستدعيان ما قاله، لكنني رفعت حاجبيّ تعجبًا، وواصلت القيام بدور المستمع المذهول، حتى فاجأتني زوجة خالي بالسؤال: وأنتِ يا لبنى ما الذي أعجبك فيه؟ همهمت ولم أدرِ ما أقول. لو كنت أجرأ وأسرع بديهة، لقلت لها إنه لا يعجبني أصلًا، وإنني لا أعرف عنه أكثر مما تعرفه هي. في النهاية قلت شيئًا لا أذكره الآن، وعدت إلى صمتي المراقِب.
في صباح اليوم التالي، وبينما كنت لا أزال لا أستطيع تحديد مشاعري تجاه زيارته، أرسل لي: الحبيبة لبنى … ربما عبّر عن سعادته بالمقابلة، وعبّرت أنا عن سعادة مماثلة، واستمرت الرسائل النصية بيننا لأسبوعين، هاتفته في منتصفهما مرة واحدة أنهاها سريعًا، وأرسلت له في النهاية أقول إنني لا أشعر بالارتياح وأريد إنهاء مشروع الارتباط هذا الآن. تأسّف من جديد، وقال إنه يحترم قراري، لكنه ظل لأسابيع تالية يحوم حولي ويتتبعني إلكترونيًّا في كل مكان، «يعد أنفاسي» حسب تعبيره، ويكتب على مدونته شعرًا رديئًا، تحت تأثير «مشاعره» نحوي، هو الذي كتب لي مرة قبل أن يراني، يقول إنه «عرف معي كيف يحب الرجل امرأة» وعندما واجهته بأن الفقرة كلها منقولة بالحرف الواحد من مسلسل تلفزيوني كان يُعرض في ذلك الوقت، أنكر وقال إنه توارد أفكار بينه وبين جمال سليمان!
«إذا كنتِ تريدينني فلن أتخلى عنكِ أبدًا!»
لعله كان يوم السادس أو السابع والعشرين من يناير، كنت أبكي في فراشي، عندما رن هاتفي برقمه، وقد كلمني ليقول إنه قلق عليّ وخائف أن أكون قد نزلت للمشاركة في مظاهرات 2011، وليكرر على مسامعي أنه يحبني، ويرجوني أن أحبه، لكنني لن أقول له ما لا أشعر به، ولن أقول أي شيء، بل سأظل أجيب اتصالاته، وتتنازعني مشاعر متناقضة لا أميزها تمامًا، ولا أدري كيف أتعامل معها. توقفت اتصالاته حين عادت شبكة الإنترنت للعمل، وعدنا للدردشة الكتابية، دون الاتفاق على قرار واضح بشأن علاقتنا.
«ما الذي يقلقك؟ هل هو اختلاف ألواننا مثلًا؟»
لم تكن المرة الأولى التي يذكر فيها كلمة «ألوان»، وكنت أحملها كل مرة على محمل «الأذواق أو الميول»، لكن ما استرسل في قوله هذه المرة، فسّر لي الأمر بما لم أكن لأتوقعه. كان يقصد باللون أنني سمراء وهو أبيض، وهو يتقبل ذلك، و«ليست لديه مشكلة!» المشكلة أنه لم يكن أبيض، لكن سماره ذو درجة أفتح قليلًا ربما، والمرة الوحيدة التي رآني فيها، بالكاد تمنحه تصورًا هلاميًّا عن ملامحي و«لوني».
في مارس، كتبت له بعد كثير من التردد والخفقان، أخبره بأني أحبه، فقال لي إني شجاعة. لم نتحدث عن الحب بعدها، ولا عن أي مشاعر أخرى، لكني قلت له مرة إني خائفة، فقال لي إنه يشعر بالخوف أحيانًا. (أنا: واو! نحن الاثنان نشعر بالشيء نفسه. لكم يشعرني هذا بالأنس، ويقربه من قلبي!)
في أبريل، قال لي أ. ش. إن قلبه مكسور بسبب الثورة وضياع البلد، وإنه لن يستطيع الاستمرار معي لهذا السبب.
اقرأ أيضًا:
- اكتشاف الجسد (1): ما قبل البلوغ
- اكتشاف الجسد (2): حديث العذرية والختان
- اكتشاف الجسد (3): جسدي المراهق
- اكتشاف الجسد (4): تفاعلات المراهقة
- اكتشاف الجسد (5): الزلزال الأول: موت الجسد
- اكتشاف الجسد (6): حياة البرزخ الأولى
- اكتشاف الجسد (7): موت أكيد للجسد
- اكتشاف الجسد (8): حكاية أحمد ومنى
- اكتشاف الجسد (9): الجسد والموت والخيال
- اكتشاف الجسد (10): اكتشاف الصمت
- اكتشاف الجسد (11): الفن والجسد والجمال
- اكتشاف الجسد (13): الخروج من الحب الزائف