شعور بالعار والارتباك كان يعتريني كلما زارتنا خالتي الأقرب، وأخذت تتفحص شعري الأسود بعينيها، بحثًا عن القمل، ولسان حالها يقول: كيف تكونين كبيرة هكذا وشعرك قذر!
كانت صدمة القمل الذي أشعل رأسي، إحدى الصدمات العديدة التي آلمتني عند رجوعي إلى مصر، بعد حوالي أربعة عشر سنة من الغياب. بالأحرى، لم يكن رجوعًا، بل دخولًا مستجدًّا إلى عالم فوضوي غير مألوف، كل ما فيه ضوضائي، الأصوات والمشاهد والأفكار والتزاحم. الشيء يُعرف بنقيضه، ولم أكن لأعرف أني عشت طول عمري في صمت، لو لم يُلقَ بي فجأة وسط هذا الجنون، والكائنات الغريبة التي تتغذى على امتصاص دمي.
ومع ذلك، لم أكتشف الصمت بسرعة، لم أميز تأثير العالم الخارجي على عالمي الداخلي بسهولة، لم أتكلم لأن من حولي يتعجبون من سكوتي ويطالبونني بالكلام، بل واصلت صمتي القديم، مصحوبًا بسخط لا أعبر عنه، وبخوف أخشى إظهاره، وبتجاهل للبشر، الطيبيبن منهم والأشرار، وبتصميم على فعل ما أريد فعله، بصمت، وبأقل قدر ممكن من الصدامات، بينما أحمي نفسي بالكتمان والتجنب.
إذا كنتُ قد سميتُ حياتي بعد وفاة أمي، حياة البرزخ الأولى، فحياتي في مصر بعد وفاة أبي، هي حياة البرزخ الثانية. وهي كالأولى، مزيج من الموت والانطفاء، والسير الآلي لفعل ما يجب فعله، بينما تعصف بداخلي العواصف. سأكتشف جموعًا من الأقارب الذين لم أعرف من قبل إلا أسماءهم وحكايات أمي وأبي عنهم، وسيفاجئني أن ليس من رأى كمن سمع، وأن الطاقة التي يحتاجها شخص لم يعتد التواصل مع الناس — لن أقول للتواصل معهم، ولكن ليكون مرغمًا على الوجود بينهم فقط — ليست طاقة هينة. سألتحق بالجامعة التي تأجَّل التحاقي بها مدة سنتين، وسأكون أنا وأخي المسؤولين الأساسيين عن البيت، ومع وصولنا إلى سن الرشد واحدًا بعد الآخر، سنستقل تمامًا عن العائلة، ونغير مكان إقامتنا، لتبدأ تدريجيًّا مرحلة الخروج من البرزخ.
في البرزخ الثاني، كنت مختلفة شكلًا عن البرزخ الأول، أكشف وجهي وكفَّي، وأرتدي ملابس ملونة، وإن كانت مهلهلة وتليق بأشخاص لهم ضعف عمري، وألفّ طرحات طويلة حول رأسي، كانت بعض قريباتي تنصحنني بتطويلها أكثر، لأخفي «مفاتني» التي كانت مخفية أصلًا، تحت ملابس لا تناسبني، وهموم، وغفلة عن وجودي الشخصي.
الغفلة نفسها كنت أحملها معي إلى الكلية العملية التي لم أخترها، بل اختارها لي قبل عامين مكتب التنسيق الخاص بالجامعات. ساعات طويلة كنت أقضيها في كلية التخطيط العمراني، في رسم اللوحات وتأدية الفروض والامتحانات. لم أصنع صداقات حميمة مع أحد، رغم صغر حجم الدفعة، وكثرة المواد التي كنت أنجز أعمالها ضمن مجموعات. لم أسعَ إلى الاقتراب عاطفيًّا من أحد، ولا سعى أحد إلى الاقتراب مني. كنتُ أعرف جيدًا كيف أغض الطرف وكيف أخفي نفسي، دون مجهود يُذكر، ودون رغبة في تغيير ذلك.
بالرجوع إلى تلك المرحلة، أعذر الحيرة التي كانت تشمل من يتعامل معي، خاصة من ذوي النوايا الحسنة، الذين كنتُ كتابًا مغلقًا أمام أعينهم، إلى الحد الذي قد يخيل معه للواحد منهم (وربما لي) أن الكتاب فارغ.
الكتاب الفارغ لم يكن فارغًا، لكنه لم يكن مكتوبًا بلغة مفهومة تمامًا، ولهذا السبب كان استمرار وجود دفتر الأشعار ضروريًّا لاستجلاء ما يمكن استجلاؤه، ثم تسجيله بلغة مفهومة بعض الشيء. كنتُ أكتب عن اشتياقي لوالديّ، وعن حبي لهما، كفكرة رئيسية أو وحيدة. ثم انفتحت لي نافذة جديدة أحدثت تغيرًا دراماتيكيًّا في إدراكي، وفي سبل التعبير عما أدركه.
النافذة كانت الإنترنت، بما فيه من معلومات وإمكانات اطلاع وتعلم ذاتي وتنويع للقراءات، وتدوين. لفتني عالم التدوين للمرة الأولى من خلال مدونة أحد زملائي في الكلية. كانت مدونته مدهشة بالنسبة لي، وكنت أتابعها بشغف، وأعلق تعليقات غريبة الأطوار على بعض موضوعاتها، بينما لا أذكر أنني تبادلت والزميل أي حديث في الواقع، رغم تقاطع مساراتنا وكون كل منا معروفًا بالنسبة للآخر، على الأقل في السنوات النهائية، حين أصبح الرابط بين شخصيتيّ الإلكترونية والواقعية واضحًا لكثيرين. عدم الوضوح، سببه أنني كنت أستخدم اسمًا مستعارًا سميت به نفسي ومدونتي الأولى، التي بدأتها في 2007 وما زلت أدوّن فيها حتى اليوم.
لعلي سأستطرد في مقال قادم، في الحديث عما فعله التدوين، وعن الفتح الآخر المهم الذي فتحه لي الإنترنت؛ فتح الفن والجنس.
اقرأ أيضًا:
- اكتشاف الجسد (1): ما قبل البلوغ
- اكتشاف الجسد (2): حديث العذرية والختان
- اكتشاف الجسد (3): جسدي المراهق
- اكتشاف الجسد (4): تفاعلات المراهقة
- اكتشاف الجسد (5): الزلزال الأول: موت الجسد
- اكتشاف الجسد (6): حياة البرزخ الأولى
- اكتشاف الجسد (7): موت أكيد للجسد
- اكتشاف الجسد (8): حكاية أحمد ومنى
- اكتشاف الجسد (9): الجسد والموت والخيال
- اكتشاف الجسد (11): الفن والجسد والجمال
- اكتشاف الجسد (12): تجربة عاطفية زائفة
- اكتشاف الجسد (13): الخروج من الحب الزائف