يوميات النشرة
أهدى هذا العدد إلى روح المرحوم بإذن الله محمد يحيى، صديقى ومديرى السابق، الذى تحل الذكرى الثانية لرحيله أثناء كتابة هذه السطور (11 أغسطس). وإن لم يكن محتوى هذا العدد احتفاءً ذا صلة بمساهماته فى الإعلام العلمى، فمشروع هذه النشرة وكثير من موضوعاتها لم تكن بعيدة عن نقاشاتنا المتصلة حول الكتابة، ولم يحالفنى الحظ فى إطلاق أعدادها قبل رحيله المبكر – المتوقع والمفاجئ على حد سواء – وأظن أنه لو كان بيننا حتى اليوم لدعم جهودى كعادته فى هذا الاتجاه.
مصطفى على أبو مسلم

ماذا لو سقط الكاتب فى غابة نائية؟
عزيزتى منى،
فى مثل هذا الوقت من العام، يدُب شعور عام بالأمل فى قلبى، سره قرب انقضاء شهور الصيف، برغم استمرار ارتفاع درجة حرارة الجو، وأجدنى أتنسم بخيالى هواء سبتمبر الذى بدأت فى العد العكسى لقدومه منذ منتصف أغسطس. وتصحبنى خيالاتى فى جولات مشى أُحرم منها لشهور طويلة، وتُجلسنى فى الحدائق النادرة بالمدينة، أو فى المساحات المفتوحة من المقاهى خارج واجهاتها الزجاجية، وبعيدًا عن هواء مكيفاتها البارد والمشبع بدخان السجائر.
يوصينى جيميناى، رفيقى الاصطناعى فى رحلة تحسين مهاراتى فى التحدث بالإنجليزية، ببدء الاجتماعات واللقاءات بموضوعات لطيفة تصلح للمحادثات الودية التى تُسمى بالـ “Small talks”، ومن ضمنها – كما ترين – موضوع حال الطقس.
ولأننى اكتشفت دون عناء أن مشكلتى مع المحادثات الودية ليس منبعها عجز لغوى، وإنما ميلى الدائم إلى الانزواء، فبدأت فى استخدام موضوع حال الطقس – ربما بإفراط – عند التحدث إلى الغرباء الذين يتحدثون لغتى ويفهمون لهجتى أيضًا، وإلا استسلمت لسلوكى التجنبى.
ولا أقصد بالطبع – عزيزتى منى – أننا غرباء، فبيننا معرفة قديمة لا أستطيع تحديد متى بدأت، ومع ذلك فهذه أول رسالة أخاطبك فيها مباشرة. هناك بالطبع عدة محاولات، تعثرت فى إنهاء بعضها، ولم أرسل البعض الآخر.
كتابة بلا صوت
أفكر منذ وقت طويل فى تلك الشجرة التى سقطت فى غابة نائية ولم يكن هناك أحد ليسمع دوىّ سقوطها، فهل كان لسقوطها صوت؟ ولا ينبع اهتمامى بهذه المعضلة الشهيرة من فضول فلسفى أو فيزيائى، وإنما هو سؤال متعلق بالكتابة نفسها، وبممارستى السرية لها، فهل تعد هذه الأميال التى مشيتها وحدى دون قارىء مسافة لها اعتبارها فى مضمار الكتابة؟ أم هى والعدم سواء؟
يطلق سقوط الشجرة طاقة حركية تتسبب باهتزازات فى الهواء على شكل موجات، ويقول الفيزيائيون إن هذه الاهتزازات التى تنتقل على شكل موجات هى الصوت، وبالتالى فإن سقوط الشجرة من هذا المنظور له صوت، بينما هناك من بين الفلاسفة من يرى أن انتقال هذه الموجات فى الهواء لا يعنى وجود الصوت ما لم يدرك هذه الموجات جهاز سمعى لكائن حى.
بدورها تُحدث الفكرة التى تستحق الكتابة اضطرابًا فى وجدان مستقر، فتُشكل موجات من الكتابة تُسجل على الورق أو حتى فى ذاكرة سحابية، ويصبح لها وجودها (المادى) المستقل الذى لا يتصل بإدراك قارئ يفسر رموزها ويتفاعل مع معانيها.
بعلم الوصول
تستدعى هذه الفرضية أعمال الكاتب التشيكى فرانز كافكا كمثال عليها، تحديدًا تلك التى لم ترَ النور إلا بعد وفاته مثل “المحاكمة” و”أمريكا”، فلا يمكن التشكيك فى وجودها المادى كأوراق لدى ناشره والقيّم على وصيته ماكس برود، لكنها كانت تواجه عدة احتمالات.
أول هذه الاحتمالات هو أن ينفذ ماكس برود وصية صديقه؛ فيعدم أوراق كافكا حرقًا وبالتالى ستصبح كتابة كافكا مجرد ممارسة، فعلًا يشبه تناوله قهوته فى الصباح، ولن تصل هذه الأوراق أبدًا إلى قارئ إلا خبرًا: “هناك شىء ما كتبه كاتب تشيكى شاب ولم يعد هذا الشىء موجودًا لنحكم على معانيه أو أسلوبه”. وهذه حالة نعرفها؛ فهناك الآلاف من الكتب التى نعرف أنها كانت موجودة ذات يوم فى مكتبة الإسكندرية أو مكتبة بغداد قبل تدميرهما، لكن لا يتصل إدراكنا بنصوصها التى انمحت من الوجود.
وثانى هذه الاحتمالات هو أن يبقى ما تركه كافكا على حالته المادية “حبرًا على ورق” محفوظًا فى صندوق ما، وبالتالى فإن معانيه كنص أدبى تظل “معلّقة” فى حالة ظنية بين الغياب والحضور.
أما الاحتمال الثالث هو أن ينشر ماكس برود هذه الأوراق، فتكتسب قيمتها الأدبية كنص أدبى باتصالها بإدراك القارئ لها، وبالتالى لم تعد كتابة كافكا مجرد ممارسة، ولم يعد وجودها المادى محصورًا فى كونها حبرًا على ورق، وصارت نصوصًا لها حضورها الفكرى فى تاريخ الأدب.
قارئ رقيب
لا أخفيك سرًا يا منى أننى أجد صعوبة فى الكتابة إليكِ، برغم ما اكتشفناه سويًا فى السطور السابقة من أهمية وجود قارئ لما أكتبه، لكننى تعودت منذ زمن على الكتابة دون مشاركة ما أكتبه مع أى شخص.
ضمنت لى الكتابة السرية نوعًا غير مسبوق من التحرر، انعكس فى كتابة ما كنت أخشى حتى التفكير فيه أثناء عملية الكتابة من قبل، وتحقق لدى تجاه ما أكتبه مستوى ما من الرضا والصدق.
واستمتعت بهذه المساحة الآمنة على مدار شهور بل سنوات، ولم يكدر صفوها إلا قراءة بعض الكتب مثل “تقرير عن نفسى” لجريجوار بوييه، و”كلبى الحبيب كلبى الهرم” لأسامة الدناصورى، و”أقفاص فارغة” لفاطمة قنديل.
اتسمت هذه الأعمال بمستوى غير عادى من الرهافة والمكاشفة، ولم يتراجع أصحابها عن مشاركة هذه الحالة من الهشاشة مع غرباء لا يعرفونهم. أما أنا، فقد اشترط استمرار الكتابة بتغييب القارئ عن مخيلتى، وإلا صار ما أكتبه ثقيلًا وملتبسًا أحيانًا.
لا أقول إن ما فعلوه سهلًا، بل بعضهم شاركنا حالة ارتباكه تجاه حضور قارئ محتمل لأعمالهم، فتقول فاطمة قنديل فى روايتها الذاتية “القارئ، الذى طالما سعيت إليه، وكان يجلس على حافة مكتبى وأنا أكتب، أزيحه الآن بعنف، لا أريد أن يقرأ هذه الأوراق، لا أريد أن يتلصص على حياتى. لكننى أكذب أيضًا، لا يمكن أن يكتب أحد دون أحد، دون أن يشاركه شخص ما هذا الضجيج السارى فى روحه…”
لكن هل غيبت القارئ عن خيالى أثناء عملية الكتابة؟ ينفى الروائى محمد عبد النبى فى كتابه “الحكاية وما فيها” صفة الكذب عن الكتاب الذين يقولون إنهم يكتبون لأنفسهم، إلا أنه يفترض أنهم ينقسمون أثناء عملية الكتابة إلى شخصين الأول يكتب، والثانى (ويصفه القارئ بداخله) يقف وراء كتفيه يقرأ ما يكتبه لحظة بلحظة.
ويعود عبد النبى إلى حقيقة أن الكتابة دون نية النشر لا تزال تستهدف “دائمًا قارئًا واحدًا ضمنيًّا نعمل على إرضائه مستمتعين. قد يكون من الأسلم لك أن تتخيل قارئك شبيهًا بك، شخصًا حميمًا، تجمع بينكما أشياء كثيرة”.
قارئ يشبهنى
وحتى فى كتابتى السرية أظنكِ يا منى حاضرة، أكتب إليكِ هذه الرسالة وغيرها لأننا كما يقول عبد النبى نشبه بعضنا البعض على نحو ما، حتى قبل إدراكى لهذا الشبه، وربما حتى قبل التعرف عليكِ فى عدة مناسبات، فنحن لم تجمعنا مناسبة واحدة، ولم أستطع التعرف عليكِ دفعة واحدة.
وربما توطدت علاقتنا فى نهاية العام الماضى، عندما حضرت ورشة تحرير مميزة حاضر بها أمير زكى، وهو مترجم ومحرر مؤسس لموقع كتب مملة، وتفاجأت فى الجلسة الثالثة أو الرابعة بتكليفه لنا بكتابة شخصية مستهدفة، أو ما يُعرف فى عالم التسويق بالبيرسونا.
حاولت فى السنوات الخمس الأخير الانفلات من طبيعة عملى التى تركز على فهم الجمهور المستهدف، احتياجاته واهتماماته وسلوكه، من أجل مخاطبته على أساسها فتزيد أرقام تفاعله مع المحتوى المنشور بالمواقع التى أعمل بها.
كانت هذه الورشة ضمن تلك المحاولات، وإذ بها تعيدنى إلى حيث رغبت الانفلات؛ لكن زكى قرر أن نرسم البيرسونا كما تُرسم الشخصية الأدبية بأبعادها الثلاثة (الجسدية والنفسية والاجتماعية)، بدلًا من التفاصيل الإحصائية التى تستند على البيانات الهائلة للجمهور التى نستخدمها فى استراتيجيات تفاعل الجمهور.
أنتج هذا التدريب تصميم شخصيتين مستهدفتين لنشرة الرسائل أحدهما هو محسن متولى، أما الثانية فهى أنتِ يا منى. وهذه ليست سطورًا من رواية تستخدم تقنية الميتا-سرد، حيث يكتشف بطلها أنه مجرد شخصية من خيال كاتبها، فينهار من الصدمة ويجثو على ركبتيه باكيًا؛ فللنشرة منذ عددها الأول قارئ ضمنى له عشرات الأسماء أعرفها جميعًا لأن أغلب أصحابها هم من أصدقائى أو من دوائر معارفى، وأكتب لهم خصيصًا كل مقال وكل رسالة، واليوم يتصادف أن يشتركوا معكِ فى نفس الاسم.
وأنتِ لا تختلفين كثيرًا عن زميلاتى اللاتى تمثلن أغلبية حضور ورش الكتابة، أو تهيمنن على الوظائف المتعلقة بالكتابة والتحرير وإدارة النشر فى الشركة التى أعمل بها، ولا أرى فى جنسكِ أو عمركِ الذى يتراوح ما بين نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينات استثناءً لمن هم خارج هذه السمات الشخصية والاجتماعية؛ إذ تشتركين معى ومع محسن متولى ومع بقية جمهور النشرة فى الاهتمامات والسلوك وغالبًا الخلفية الثقافية، أو كما أقول دائمًا جميعنا نشرب من نفس النهر، سواءً شرب أحدنا من الترعة مباشرة، أو من قربة الساقى، أو من ماء الزير البارد، وفى أحسن الأحوال من الحنفية.
وختامًا، أتمنى أن تصلكِ رسالتى هذه وأنتِ فى أتم صحة وعافية، وأن تساهم هذه الرسالة فى كسر حالة الارتباك لدى تجاه حضوركِ وغيابكِ أثناء عملية الكتابة.
وافر مودتى،
مصطفى على أبو مسلم
قراءات

مدام بوفاري: بحثًا عن الحياة الحديثة
سارة العمرى – كتب مملة
تتناول الكاتبة شخصية مدام بوفارى بالتحليل، كيف عرضها فلوبير أو استخدمها لإيصال رسالة أخلاقية حول قبول أقدارنا وعدم التطلع لأنصبة غيرنا فى الحياة، مستندة إلى تحليلها الشخصى لأحداث الرواية ودوافع أبطالها – لا سيما إيما (مدام بوفارى) وزوجها شارل – فى السعى نحو الحرية وامتلاك المصير، وبالاستناد إلى نقد المفكر شارل بودلير للرواية الذى أبرز فيه سعى إيما المتطلعة إلى حياة مادية واستهلاكية فارغة.
رفوف

مهنتى الرواية
تأليف: هاروكى موراكامى – ترجمة: أحمد حسن المعينى
دار الآداب – 2024
.
كتب الروائى اليابانى هاروكى موراكامى سلسلة من المقالات، يتحدث فيها عن تجربته فى كتابة الرواية وعن معنى كونه روائيًا، ونُشرت تلك المقالات التى شكلت نواة هذا الكتاب سنة 2010 بمجلة أدبية يابانية. بعد هذا التاريخ بخمس سنوات، نشر كتابه “مهنتى الرواية” باللغة اليابانية، وذلك بعد أن أعاد صياغة المقالات لتصبح فصوله كما لو كانت كلمة يلقيها على جمهور فى قاعة صغيرة تضم 30 أو 40 مستمعًا فتصبح أكثر حميمية.
ويعتبر موراكامى أن الكتاب نظرة شاملة على آرائه التى كونها عن الرواية بعد العمل لأكثر من 30 عامًا كروائى، لكنه يشكك فى أن هذا الكتاب يمكنه أن يصبح دليلًا إرشاديًا يساعد من يرغبون فى كتابة الرواية.
يحتوى الكتاب على 11 فصلًا، نُشرت فى 224 صفحة فى نسختها العربية المترجمة عن النسخة الإنجليزية التى صدرت سنة 2022.
اقتباس
إن كتابة الروايات لا يمكن أن تخلو من التعبير عن الذات، ما يعنى أنك حين تتحدث عن عملية الكتابة فلا مفر من الحديث عن نفسك.
هاروكى موراكامى – كتاب مهنتى الرواية
على فكرة